رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فصل من رواية «لعنة رافيا»

جريدة الدستور

تعيش أسرة «مها» فى فيلا فاخرة بناها أبوها بعد أن اغتنى مؤخرًا من تجارة الأنفاق، أحاطها بسور مبنى من الحجر الجبلى، له بوابتان حديديتان، بوابة كبيرة مزخرفة تنفتح على حديقة خضراء، وبوابة للمرآب تتسع لسيارته «الشيروكى السوداء»، ولديه الآن حساب مصرفى ومزرعة كبيرة عامرة بأشجار الموالح والزيتون، بالإضافة إلى بيت قديم كان يسكنه، ويستخدمه الآن لتخزين البضائع قبل تهريبها إلى «غزة» عبر الأنفاق.
فيلا فاخرة وحياة رغدة تليقان «بريما»، أو «الخليلية» كما كان يسميها البعض، نسبة إلى مدينة «الخليل» التى وُلدت وعاشت فيها حتى أكملت الثانوية العامة، ومن ثم دفع بها قدرها لأن يراها «فؤاد»، وقد كان يعمل مع أبيها فى مصنع مستلزمات زراعية، يمتلكه إسرائيليًا ذى الأصول المغربية.
دعاه ذات مساء على العشاء، فرأى «ريما» واستحوذت على تفكيره، فاتحه بعد فترة بشأن رغبته فى الزواج منها، وقفزت الفرحة من عينيه حينما وجده يرد: بأنه ليس لديه مانع، لكنه ما لبث أن شعر بالاستياء إثر قول أبى ريما مُستدركًا: لكن القرار يعود لابنته فى النهاية.
وقبلت به «ريما» زوجًا، أنجب منها ولدين وابنتين.
«وسام» أكبرهم، أنهى دراسته الجامعية وهاجر إلى «السعودية»، و«حسام» حاصل على شهادة «دبلوم تجارة» ويساعد والده الآن فى تجارته، و«ميسون» طالبة فى السنة الأخيرة بالمرحلة الإعدادية، ويعيشون جميعًا حياة هادئة وهانئة، ووحدها ورثت «مها» كل شىء عن أمها، طولها، بياضها، لون شعرها الكستنائى ونعومته، وجهها البيضاوى، عيناها الخضراوان، شفتاها الممتلئتان التواقتان، ببساطة كانت تجسد أمها وتعيد سيرتها حتى فى اندفاعها وتمردها، لذا كانت الأقرب إلى قلب أمها.
لم يلفت انتباه «ريما» ذات يوم شرود زوجها وهم يتناولون طعام الغداء، فلا بد أنه منشغل كعادته بشئون عمله، فهى تدرك أن عمله لا يخلو من المخاطر، إلا أنها بدت مطمئنة كون كل شىء كان يسير على ما يُرام، فلم يحدث حتى الآن على الأقل أن أخل التاجر «الحمساوى» الذى يتعامل زوجها معه بالاتفاق المُبرم بينهما، فثمن البضاعة المطلوبة يقبضه زوجها على الفور، كما أنه ملتزم بإرسال حصة الرجل الذى يؤمنه بسلطته النافذة فى الدولة أولًا بأول.
لكن ما لفت انتباهها شرود «مها»، وأدهشها أنها وجدتها، ما أن غادر أباها متوجهًا إلى عمله، تجذبها من يدها وتغلق عليهما باب غرفتها، ما أثار غيظ «ميسون» على نحو دفع بها لتتبعهما على رءوس أصابع قدميها الحافيتين، وإلصاق أذنها بالباب لعلها تلتقط كلمة مما يدور بينهما فى الداخل بصوت خفيض، يزيد من شعورها بالغضب.
لقد تعودت «ريما» على الألم منذ وقت طويل، فقد عانت منذ وقت مبكر ألم فراق أهلها وأناسها ومدينتها، والانتقال للعيش مع زوجها فى مدينة صغيرة تعانى الإهمال يسمونها «رفح»، وما زالت تعانى ألم فراق ابنها الأكبر «وسام» وشوقها لرؤيته، وحسنًا فعل زوجها حينما ابتاع لها حاسوبًا لتتخلص من بعض عذابها، بالتواصل معه ومع أهلها عبر خدمة «ماسنجر».
وتعانى مؤخرًا ألم رفض «حسام» الزواج، بعد أن سبق وتقدم لطلب يد فتاة ما ورفضته، وها هى الآن معذبة برؤية ابنتها تتعذب أمامها هيامًا بأستاذها، وقد راحت «مها» تحدثها عنه بافتتان.
لم يكن سبب ألمها اكتشافها المفاجئ لتعلق ابنتها بأستاذها، فهى تعى أن «مها» تعيش مرحلة مراهقة حرجة، وتعرف كيف تساعدها على اجتيازها، لكن ما كان يضاعف من شعورها بالألم خوفها من أن يرفض زوجها «كمال»، إذا ما جاء يطلب يد ابنتها، لا لشىء غير كونه بدويًا، وزوجها لا يحب البدو، لسبب ظلت تجهله لوقت طويل، حتى وقفت بمرور الوقت على معرفة حقيقته المقيتة.
وبقدر ما أثار دهشتها اكتشافها لحقيقة أن البدو يبادلون زوجها وأبناء جلدته نفس النظرة، أدهشها كيف أمكن للطرفين أن يتعايشا معًا، رغم إدراك كل طرف حقيقة أن الآخر ينظر إليه بدونية، ويُظهر له عكس ما يُبطن!، وكيف أمكنهما التعايش طوال الوقت بهذه الازدواجية؟!.
وحينما نقلت دهشتها وحيرتها ذات مرة إلى زوجها، أجاب ببساطة: أنها الضرورة، وكما يُقال «للضرورة أحكام»!، فماذا عساهم فاعلون؟!، وقد فرضت عليهم حياتهم اليومية ومصالحهم المشتركة ومصيرهم الواحد، التعامل بازدواجية كما قالت.
واستأنف باستخفاف:
بأن يمكن لها تسميتها بالعلاقة النفعية، فكل طرف يجد ما ينقصه لدى الآخر، هكذا ببساطة تسير الأمور بينهما، وربما ستظل هكذا إلى ما لا نهاية!.
ورغم مضى وقت طويل على نقاشهما، لم تزل تتذكر كيف شاركها زوجها رأيها حينها، وقد أخذت تعيب على المتعلمين من كلا الطرفين تخاذلهم عن مواجهة مثل هذه الأفكار القديمة، وتحمّلهم مسئولية استمرارها.
ولم تزل تتذكر كيف سرّها أن بدا زوجها غير راضٍ عن سير الأمور على هذا النحو، حينما تساءلت متعجبة: ألا يوجد من بين هؤلاء المتعلمين من يتحلى بالشجاعة الكافية للإعلان عن رفضه لمثل هذه الأفكار؟.
فأجاب:
مؤكد بينهم من يرفضها بشدة من كلا الطرفين، لكن كما يُقال: «ماذا يمكن لإبرة أن تفعل فى بحر؟!».
ورغم عدم تأكدها من حقيقة ما بدا عليه زوجها آنذاك، فإنها رأت فيه أملًا يقوى لديها من احتمال موافقته، إذا ما حدث وتقدم «كمال» لطلب يد ابنتهما.
أفاقت من شرودها على صوت «مها» متسائلة فى قلق: يا الله متى ستنتهى من الامتحانات؟.
كانت تدرك أن ما يقلق ابنتها ليس امتحاناتها كما تدّعى، بل موقف أستاذها غير الواضح نحوها، كما تدرك أن عليها أن تبذل جهدًا لتخرجها من أزمتها، بدأته بنصحها: أن عليها ألا تفكّر الآن فى أى شىء سوى مذاكرة دروسها، والاستعداد لامتحانات الثانوية العامة، وأن تكون أكثر رصانة وتحكمًا فى مشاعرها، فما أدراها ربما لا يبادلها أستاذها نفس الشعور، وإذا ثبُت لهما بمرور الوقت غير ذلك، فحينها يكون لكل حدث حديث».