رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كلاب الصين!

جريدة الدستور

يأخذ نَفْس الشكل حينما كان يقعى على ذيله، هناك فى الحارة، مُتذئبًا لمن يقترب من البيوت والحظائر والعشش، معتمدًا على أماميتيه كدعامتين مائلتين قداَّمه، برأسه التى تشبه عقفة الهمزة على ألف مائلة!.
يأخذ تأخذ...!
(كل الكلاب، ذكورًا وإناثًا، فى نظر الناس كلب واحد، كلها كلب، حتى حين يطردونه يطردونها، يقولون له لها.. أمر واحد.. هو «امشى»).
نصفه الخلفى مات، انسحق، التصق بالأسفلت. أما نصفه الأعلى؛ وإن بدا قصيرًا غاطسًا فى النصف الملتصق بالأسفلت، فلا يزال فيه الروح، نراه يتململ، يقاوم، يحاول خلخلة النصف المنسحق بالأسفلت، بقدر ما يمتص من حياة.. من ذلك الذى مات!، عَبر شرايين ربما تكون لا تزال موصولة، وخلايا قد تكون لا تزال بها ارتعاشات روح، أعانه هذا على أن ينخرط فى حركة نصف دائرية، هادئة ومطمئنة، توحى إليك بمنظر كلاب من البلاستيك أو الشمواه، يضعها السائقون أمامهم على تابلوهات سياراتهم، فتظل رءوسها الموضوعة على «زنبرك» تتأرجح نحو اليمين ونحو الشمال بفعل الاهتزاز!
الميت يستغيث، يستنجد بالحى، يقرصه، يلدغه، يذبحه بسكاكين خلاياه التى تهتكت، كى يتحرك، يفعل شيئًا، يخلعه، يجره، يجرجره بعيدًا عن مروق الإطارات، فهو الذى لا يزالُ حيًا.
لكن سرعان ما ترتد إليه إشارات كهربية مستنفِرة، مستفِزة، مِن ذلك الذى لا يزالُ حيًا، أن يحاول هو، يعافر، يساعد، ينخلع، يقلع المسامير، يُذيب الغراء، حتى يتمكن من جره والابتعاد به عن مسار السيارات.
لكن الميت لن يقوم، دمه يفرش البقعة ويندب حظه!
«لماذا أنا الذى انسحقت؟، فلو كانت الرأس هى التى انسحقت، لارتحنا معًا».
الخلفية المسحوقة فى الأسفلت، ربما تذكرت اللحظة التى سبقت سحقتها مباشرة، حين جرى الكلب «الطفس» خلفها، فكان أن هرولت كالعمياء، تجرى وكل همها أن تهرب من ذلك اللاهث، أو جرى وراءها «سِمَّاوى الكلاب»، فلم ترَ السيارة القادمة، فانسحقت مطية الشهوة، وبقيت عقفة الهمزة!، لتظل منهمكة فى حركتها نصف الدائرية، كأنها تُطلق «هَوْهَوَة» مكتومة من الداخل إلى الداخل، ربما؛ وعلى هامش الكارثة تتذكر.. تستدعى.. تتمنى.. مرة واحدة، «هَوْهَوَة» واحدة، من تلك التى كانت تُطلقها، وهى تجرى وراء ولد أغراها بلقمة من رغيف.. أو عندما كانت تقعد مرتكزةً على ذيلها، فقط، فى محاولة لإثبات وجودها إذا هجم على العشش أو البيوت جماعة من الهجَّامة.
كانت سحقته، والنصف العلوى يستغيث هكذا، وفى نهر الطريق، تجعل السائقين؛ حينما يلمحونه وهو يتلوى، يفادونه، يبتعدون عنه.
فكنت تجد السيارات المتجهة عن شماله، تنحرف عنه قليلًا، والسيارات المتجهة عن يمينه تنحرف عنه قليلًا، فصنعت الإطارات قوسين حوله، حتى صار مثل تمثال يتوسط ميدان، لكلبٍ، نصفه ميت ونصفه حى!
تمثال ينبض، يجاهد، يقاتل، يتحرك، وباستمرار، كأنه بندول ساعة. الحركة تملأ «الزنبرك»، والزنبرك يصنع الحركة، يتشبث بالحركة، يخلقها، يتقوّى عليها، كى تدوم، تستمر، فتظل السيارات تصنع قوسًا من هنا، وقوسًا آخر من هنا.
وحينما هبطتْ غبشة المساء، كانت كشّافات السيارات تنعكس على خرزتى العينين، فتشع اللؤلؤتان شعاعًا يرسل تحذيرًا للسائقين، بينما هو قاعد فوق نصفه الميت، المنسحق، مطمئنًا، هادئًا، تتلوى رقبته، فى حركة آلية، نصف دائرية، نحو اليمين، ونحو الشمال، كأنه ينادى، يناجى، فى حلقة ذكر، لسان حاله يقول:
حى.. حى.
أو ربما ينبح نباحًا مكتومًا، من الداخل إلى الداخل كأنه يقول:
هَوْ.. هَوْ هُوَ.. هُوَ