رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"نعيمة عاكف".. فراشة رقصت قرب النار

نعيمة عاكف
نعيمة عاكف

"بهلوانة بنت بهلوانة، راقصة بسيطة"، لم تزد نعيمة عاكف في تعريفها لنفسها أكثر من ذلك، ونسبت كل نجاحاتها لزوجها المخرج والسيناريست حسين فوزي، اكتشفها وصعد بها للسماء السابعة، قالت بتحدي: "مش هو ده اللي بتقولوه عني، كدا ولا مش كدا، لن أكذبكم، لأنني لسه مؤدبة، وسأحكي لكن عن أصلي وفصلي، وأعرفكم بحياة قلبي، وأدخلكم في قلب حياتي، وبعد كده قولوا اللي تقولوه".

تقول: في البداية أنا قاسية جدًا على نفسي، أجيد تمثيل السعادة، وأنا في الحقيقة من أتعس التعيسات، ويا ويلي من إجادة هذا التمثيل، أنا لست "عبيطة" ولكنني أجيد "الاستعباط" و"الاستهبال" في الوقت المناسب حتى لا أتيح الفرصة لأن "يسوق الحداقة" على أحد بلا مبرر، "مش" بخيلة و"مش" مسرفة "كمان" وعلى فكرة.. أنا أقيم كل سنة "خاتمة" في مولد النبي ومولد السيد البدوي، وأزكي عن كل قرش من مالي. مالي الذي ليس منهم مليم واحد في أي بنك.. إن كل ما امتلكه لا يزيد عن متاع ومصاغ اية سيدة".

تابعت: أما ميزتي التي اعتز بها، وأتمنى أن تكون عند كل إنسان.. فهي قوة الإرادة.. أنا قوية الإرادة جدا، فإذا سعيت على شيء لا تستطيع أية قوة في الأرض أن تثنيني عنه.

خالطت بهرجة ألوان السيرك عيون الفتاة منذ والدتها، فجدها إسماعيل عاكف بحكم وظيفته "ضابط بوليس" يدرس الجمباز لتلاميذ مدرسة البوليس بالعباسية، وكان أشهر لاعب متوازيين في مصر.

قالت "نعيمة": بعد زيارة أحد لاعبي السيرك المشهورين في إيطاليا، تغيرت حياة عائلتي تمامًا، ذهب "جدي" ليشاهد هذا الإيطالي، تعلقت به روحه، لبراعته وإجادته المبهرة في"المتوازيين"، فالجمهور ينتظر فقرته الفنية بلهفة، فقد كانت الأنجح في "البروجرام"، وبعد عدة زيارات توطدت العلاقة بينهما، فقدم "جدي" استقالته من البوليس ليتفرغ لحياة السيرك، ولقسوة القدر والحياة، رحل صديقه الإيطالي عن القاهرة، أصيب بصدمة قوية، فأقعده المرض في الفراش، لفه الفراغ والبؤس، كيف يدبر مأكله ومشربه؟ والأصعب، كيف يوفر لنفسه حياة السيرك التي عشقها ووقع في غرامها؟

قفز "جد" الفنانة نعيمة عاكف، سليمًا معافى البدن، فور سماعه بخبر افتتاح أول سيرك مصري، تملكه سيدة اسمها "ألمظ" بنت الشيخ علي الزيات وتدعى"الأسطى مريم"، جميلة الملامح، تحب السيرك وترتاح لحياته، هربت من قيود عائلتها الكبيرة "العشماوي"، لتحقق مرادها بافتتاح أول سيرك في مصر.

عمل إسماعيل عاكف والأسطى مريم، سويًا، هزتهما رابطة الحب، ووطدت بينها، فتزوجا، كان لدى الأول ابن "سيد عاكف"، والثانية لديها ابنة تدعى"جميلة"، وتزداد الروابط، فيُعجب "سيد" بـ"جميلة" ويتزوجا وينجبا ثلاث بنات، أصغرهن "نعمية".

تقول "نعيمة": يا عيني علي كنت – وأنا في طريقي الى الحياة – أتوقع أن تستقبلني الأسرة بمشاعر الفرحة والحب والإعجاب بجمالي الساحر الفنان، ولكني فوجئت بهم جميعا عابسين يرمقون أمي بنظرات الحقد القاسية، فبكت أمي الحبيبة حظها الأسود، انتظروا أن تلد لهم الولد، لكني كنت حظهم التعس، لا ذنب لي، وما ذنب والدتي المسكينة، لم تمرد دقائق من ولادتي، جاء لعائلتي عرض للعمل بملهى البوسفور، أكبر الملاهي المصرية وقتها، وتحصلوا على عربون كبير، أدخل السرور على قلب والدتي، صاحت، سأسمي المولودة: "نعيمة".

تساءلت "نعمية" أثنا مقابلتها مع جريدة مدى العراقية: لست أدري، لماذا ولدت؟ هل لأحاط بكل معاني الذل والشقاء، ربما، طفولتي كانت تعيسة، التوتر يسود بين أفراد العائلة، والدي في خلاف دائم مع والدتي، هذا يهدد هذه، وهذه تشتم تلك، وأنا أصم أذني، والدي أدمن لعب القمار، باع أثاث المنزل، ملابسه، قامر على السيرك، اضطررنا أن نعمل في أماكن أخرى لعدة شهور، لم أعرف معنى الأبوة أو الأمومة، وهو ما دفعني لتقديس عاطفة"الحنان"، فتشت عنها في كل من قابلته في حياتي، ولا أرى في الحياة أجمل من منظر الطفل البريء، الذي تملأ عيناه السعادة والاطمئنان عندما يتوسد ذراع أمه وقلبها، وينام سعيدًا.

قلبتهم الحياة بين مرها وحلوها، فقرها ووسعها، يكسب الوالد في القمار، تنفرج الأمور، يخسر، تنقلب الحياة بؤسًا ومرارًا، والأم وبناتها الثلاث، يعلمون في السيرك.

حكت "نعمية": ضاقت علينا الحياة في مدينة طنطا، نزلنا إلى القاهرة، نحن "الأربع ولايا"، لا حول لنا ولا قوة، عملنا مع الفنان علي الكسار، ورقصنا على خشبة مسرح بديعة مصابني التي أصرت أن نجالس الزبائن، تركنا العمل، مشينا للمجهول، الشارع، لا نملك حق الغداء.

"نغشش" الرقص البلدي في مزاج نعيمة عاكف، أحبته، ملأ رأسها، حدثت أختها به، عرفت الأم، أوسعتها ضربًا، علقة موت، نتج عنها جرح في الرأس، لازمها إلى الأبد، ورغم ذلك، التحقت بفرقة "الكحلاوي" للرقص البلدي بروض الفرج، خفية، دون أن يعلم بأمرها أحد، ثم استهواها رقص "الكلاكيت" بعدما شاهدت راقصة أجنبية تؤديه، فسرقت حذاءها ذا الكعب الحديدي لتفصل شبيهًا له، لكنها وجدت تكلفته عالية، فأعادته سريعًا، واعترفت لها، فأهدتها الراقصة الحذاء. ثم ضمتها "ببا عز الدين" إلى فرقتها بعدما شاهدتها، وأعجبت برقصها، دفعت لها 30 جنيهًا شهريًا، وراودتها بمقابل 60 إذا جالست"نعيمة" الزبائن، فرفضت.

تروي الفنانة نعيمة عاكف، رآني حسين فوزي ذات ليلة، وأعجب بي، فقدمني إلى المنتج السينمائي"نحاس"، اجتزت الأختبارات، وبدأت العمل في فيلم "العيش والملح" 1949، نجح الفيلم، خطوت للمجد والشهرة، وجدت الحنان الذي أفتش عنه في قلب حسين فوزي، صار لي أخًا وحبيبًاـ تزوجنا.

مرت السنين، نعيمة عاكف زوجة مطيعة، حسين فوزي يتصرف في المال والأعمال، ائتمنته على كل شىء.

وضحت"نعيمة"، بعد انفصالي عنه، ترددت الشائعات، بأن السبب هو الخلاف حول الأمور المالية، لكن ما حدث هو خلاف كان سببه أن حسين فوزي، عاملها كطفلة صغيرة، بلا شخصية، تجاهل آراءها، تحكم في مجيئها وذهابها، في الوقت الذي كانت تريد أن تصبح سيدة عاقلة لها كيانها وشخصيتها المستقلة وآراؤها ومبادئها الخاصة، وبعدها عدنا مرة أخرى لسابق عهدنا، دون طلاق.

ترى نعيمة عاكف أن السعادة بيد الإنسان نفسه، يملكها إذا أراد، قالت: السعادة مسألة نسبية يستطيع المرء أن يخلقها لنفسه بنفسه وبقوة إرادته.. هذا إذا لم تتدخل يد القدر. نصيحتي لأي شخص، أن لا يكون أنانيًا، لا يحكم على نفسه بالحرمان، الحرمان من المتعة يجلب العذاب، "اتمتع يا أخي، هو حد واخد منها حاجة".

أثناء طفولتها، تاهت نعيمة عاكف في أحد الموالد، أوقعتها قدماها حيث يستقر جماعة من "الغجر"، عاشت بينهم وقبل أن ينتقلوا لمكان آخر، أعادوها إلى أهلها. قالت نعيمة عاكف: "ترى لو أصبحت غجرية.. نضرب الودع ونشوف"، هل كنت أسعد حالا من تلك النعيمة عاكف الممثلة المشهورة؟ والله جايز.