رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبدالوهاب داود يكتب: صناعة الوهم فى مطابخ الصحف الدولية

جريدة الدستور

منذ فترة ليست بالقصيرة، وجدتنى مشغولًا بالمثل الشعبى «كذب مساوى ولا صدق ملعبك»، ومدى صحة انتسابه إلى أمثالنا كمصريين، والحقيقة أننى ما زلت لا أفهم فكرة الترويج للكذب، أيًا كان نوعه، أو شكله، أو سياقه، ملعبك أو ملخبط أو مبعكك، أبيض أو رمادى أو غيرهما من الألوان.
المعروف أن هناك روايات تستبدل كلمة «ملعبك» بكلمات أخرى تحمل نفس الدلالة، مثل «ملخبط»، أو «مبعكك»، واللافت أنها كلها مستمدة من فنون الطبيخ، أو «العجن» على وجه التحديد، وأغلب الظن أننا جميعًا نعرف ما «لخبطة العجين ولعبكته»، فإذا كان المصريون أفضل شعوب العالم فى فنون «الرغى»، أو «الهبد» بالمصطلح الجديد، والمستمد من وسائل التواصل الاجتماعى، فإن فطنة المصرى القديم هى ما جعلته على الأغلب يختار المثل من «العجن»، وليس من أى صنعة أو فنون أخرى، فنحن نستخدم الكلام لمجرد الكلام، والرغى، أو «اللت والعجن»، فهو «كلام ابن عم حديت»، كما يقولون، لا حوار بيننا، ولا مناقشة، لا نعرف فنون الكلام كوسيلة للتواصل، أو للحوار، والإقناع والاقتناع، الكلام عندنا مجرد وسيلة نفرغ بها ما يمر على رءوسنا، من تصورات وأفكار، وحكايات، دون استماع للطرف الآخر، الذى لا يهمنا ما يظن، أو ما يدور بذهنه، أو ما يرى، لا نريد إقناعه، ولا مناقشته، ولا يعنينا بأى حال من الأحوال.
وإذا كانت مقولة «الصدق منجاة» حاضرة فى الذاكرة العربية، فإن حضورها لا يعادل هذا المثل، الذى يحتل مرتبة متقدمة فى ثقافتنا، لذا برعنا فى «تسوية الأكاذيب»، وتسبيكها، وترويجها أيضًا، بل التهوين من خطرها، أو أثرها، فأصبح لدينا «الكذبة البيضاء»، والرمادية، وغيرها من الألوان، وهى أنواع من الأكاذيب التى برعنا فى الترويج لها باعتبارها لا تؤذى أحدًا، ولا خطورة منها، وربما كانت محببة لدى البعض.
والحقيقة أنه لم ينافسنا، أو يتفوق علينا فى هذه العملية، «تسوية الأكاذيب وتسبيكها»، إلا «الخواجة»، الذى تحول عندنا إلى «عقدة»، نرد بها على من ينجح فى تحويل دفة الكلام لصالح ما يروى من أخبار وحكايات، حتى أصبح ما يقوله «الخواجة» عنا أكثر حضورًا مما نراه بأعيننا، ونلمسه بأيدينا، ونردده فى جلساتنا، وبيوتنا، فإذا ما قال «الخواجة» نقيضه، أو عكسه تمامًا، صدقناه هو، وتحولت حكايتنا، وحواراتنا، إلى تبنى ما يردده هو عنا، وهو ما أصبح أشبه بكارثة نعانى منها، خصوصًا فى السنوات الأخيرة، وتحديدًا منذ منتصف القرن العشرين، مع انتشار الصحف الدولية، ووكالات الأنباء العالمية، والتى تدعى، جميعها، المصداقية، والموضوعية، والحياد، رغم معرفتنا جميعًا بما تقوم به من أدوار، سياسية أو اجتماعية، أو ثقافية، وبأنها صنيعة النظم، ووكالات الاستخبارات الغربية، ورغم ما تم الكشف عنه من أنها جزء شديد الأهمية فى «الحرب الباردة الثقافية»، المصطلح الذى صكته الباحثة البريطانية فرانسيس ستونور سونديرز، فى كتابها المهم الذى يحمل نفس العنوان، والذى صدر بالعربية بترجمة طلعت الشايب، وتقديم الدكتور عاصم الدسوقى، منذ ما يقرب من العشرين عامًا، أو أقل بقليل، وهو الكتاب الذى «يتحدث عن ذراع التجسس السرية لوكالة الاستخبارات الأمريكية، والتى تمثلت فى منظمة الحرية الثقافية، ومكاتبها المنتشرة فى ٣٥ دولة، وتصدر أكثر من ٢٠ مجلة ذات نفوذ، وتنظم المعارض الفنية، وتمتلك مؤسسات إعلامية، وتعقد مؤتمرات دولية، تحضرها شخصيات بارزة، وتكافئ الفنانين والموسيقيين بالجوائز»، بحسب الكاتب الصحفى رجب البنا، وهو الكتاب الذى يتحدث عن حرب الدعاية، والتحرك المنظم لنشر معلومات، وأخبار، وأفكار، وطرح قضايا بعينها، والتخطيط للتأثير على الأفكار، والسلوك، وتجنيد أعداد من الأكاديميين ومراكز البحوث، فيما يمكن أن نطلق عليه «شبكة الدعارة المعلوماتية الدولية»، والتى لا تتورع عن استخدام الدين كسلاح فى هذه الحرب الثقافية الشاملة.
كل هذا وغيره سبق الكشف عنه بالوثائق، والأدلة، ونشره فى كتب، ومقالات، ودراسات، لكن ما يقلق حقًا أنه فيما يبدو أن العرب بالفعل «لا يقرأون، وإن قرأوا لا يفهمون»، وإلا فماذا يجعلنا لا نصدق ما نراه بأعيننا، ونلمسه بأيدينا، ثم نلهث خلف كلمة، أو صورة، لا يعلم صدقيتها إلا الله، ومحترف «الفوتوشوب»، الذى «صنعها وركبها» فى غرفة مظلمة، تحترف صناعة الوهم فى نيويورك أو لندن أو تل أبيب؟!.