رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى ذكرى ميلاده.. هو العُمر كله فيه كام «فريد»؟


أحتاج إلى قوة هائلة، لأكتب عن رجل، هو نقطة ضعفى. أحتاج إلى فنجان آخر من القهوة، لأعدل مزاجى، إلى منتهاه، لأكتب عنه، وأنا فى ذروة «الروقان». وأحتاج إلى موسيقاه الساكنة وجدانى، تنصت إلى إيقاع كلماتى، وهى تعبر عن امتنانها، لأنه «موجود»، «متاح»، فى زمنى.
أكتب له، فى ذكرى ميلاده ٢١ أبريل، علنى أكشف السر الكبير، الذى يربطنى بصوته، وألحانه، وموسيقاه.
كيف تضبط نغماته، وموسيقاه، كيمياء مخى، المتعفرتة من نقص «السيروتونين»، ونقص العدالة فى العالم، وزيادة ميكروفونات «النشاز» المحاصرة بيتى، وإيقاع حركاتى؟. لماذا فورا «يروق» مزاجى، عندما يبدأ فى الغِناء، وأراه بحركة ذراعه اليسرى الشهيرة، تنثنى إلى الوراء، والتى أصبحت معلمًا تاريخيًا وفنيًا فى حد ذاتها، يجب دراستها، وفهم مغزاها، ودلالتها؟. وكيف أختصر الاحتفال بيوم ميلادى، بصوته يغنى لى: «يا مالكة القلب فى إيدك دا عيد الدنيا يوم عيدك». ثم يختم بإحدى روائعه: عدت يا يوم مولدى؟.
وحين أتأمل حياتى، أجد أن كل رَجل، انجذبت إليه، كان لا بد أن يرتبط بعلاقة عضوية حميمة، بالغِناء، والموسيقى، بشكل ما.
وبالنسبة إلى «فريد»، فإننى أغفر كل العيوب، لمجرد أن صاحبها يحب غِناء وألحان «فريد». وأنسى أروع المزايا لأن منْ يملكها لا يحب صوت وألحان «فريد». هكذا يعربد «فريد» كما يشاء، يظلم، ويعدل، يشكل طباعى، وأخلاقى، وحكمى على الناس. أتركه دون تدخل أو تذمر. هو العمر كله فيه كام «فريد»؟.
لست أستطيع الكلام عن الموسيقى والغناء دون التطرق إلى ذلك الرجل الاستثنائى غريب المزاج، نادر التواضع، فيلسوف الموسيقى، اسمه القصبجى ١٥ أبريل ١٨٩٢ – ٢٦ مارس ١٩٦٦، مع «القصبجى» أتألم من ذروة الانتشاء. مع «فريد» أنتشى إلى حد الألم. مع «القصبجى»، تتعفرت دقات قلبى. مع «فريد»، تهدأ دقات قلبى. مع «القصبجى»، أسافر. مع «فريد» أعود. مع «القصبجى» أنسى منْ أنا. مع «فريد»، أستعيد ذاكرتى. يتألق «فريد»، فى جميع أعماله. لكنه يصل إلى الذروة، فى الأغنيات التى تثير الشجن، وتقطر ألما. وكأن رسالته هى مواساة القلوب الحزينة، ومداواة آهات الألم. وما أعظمها من رسالة فى عالم يدوس على قلوبنا ومشاعرنا، يعذبنا، ويعذب منْ نحب، بشراسة، وبدم بارد.
من أجمل أغنياته: قسمة، حكاية غرامى، نجوم الليل، لحن الخلود، القلب قلبى، حبيب العمر، أحبابنا يا عين، يا قلبى يا مجروح، سألنى الليل، كفاية يا عين، يا زهرة فى خيالى، أول همسة، ودعت حبك، إنت اللى كنت بادور عليه، يفيد بإيه الأنين، أنا كنت فاكرك ملاك، لو تسمعنى لآخر مرة، مقدرش أقول آه مقدرش أقول لأ، عذاب عذاب، قدام عينيا وبعيد عليا، مخاصمك يا قلبى، يا حبيبى طال غيابك، أضنيتنى بالهجر، ياللا سوا، أيامى الحلوة، لو تسمعنى لآخر مرة، لا وعينيك، وحدانى هاعيش، صدقينى، بقى عايز تنسانى، حبيبى فين، إرحمنى وطمنى، وحياة عينيكى، قالتلى بكره، وياك. حتى ألحانه الرشيقة المرحة، سهلة ممتنعة، ووجبة دسمة، مثل: ما قللى وقلتله، سافر مع السلامة، حبيته لكن مباقولشى، مرة يهنينى ومرة يبكينى، دايما معاك، نورا، جميل جمال، الحب لحن جميل،
أنا وإنت والحب كفاية علينا، أنا وأنت حسدونا فى حبنا، تقول لأ، إرحمنى وطمنى، يا حليوة، آخر كدبة، ملكش حق، مع المطربة نورالهدى.
والأغنية التى أعشقها، ولا مثيل لها فى موسيقانا العربية، لحن «يا فرحة الميه».. لحن عبقرى، ملحمى، مبتكر، بسيط جدا، ومعقد جدا، معبر جدا عن وصف غريب، رقيق: «يا فرحة الميه».
قلما يعبر الاسم عن صاحبه. لكن اسم «فريد» يتناغم مع شخصية «فريد». كان فريدًا فى موهبته، وفريدًا فى وحدته، وفريدًا فى أحزانه، وفريدًا فى كرمه، وفريدًا فى رهافة مشاعره وحساسيته، وفريدًا فى عزفه على العود، وفريدًا فى عزوفه عن الملذات الزائلة، وفريدًا فى إهمال صحته، وفريدًا فى علاقته بالنساء، وفريدًا فى عشقه للبحر، وفريدًا فى ملله السريع من الأشياء، وفريدًا فى تأثيره على قلبى، وفريدًا فى مرض قلبه، وفريدًا فى شعبيته، وحب الملايين له.
كل مساء، لا يأتينى النوم، إلا على صوت «فريد»، يشدو فى سكون الليل: «تصبح على خير يا حبيبى إنت من الدنيا نصيبى».
فلا أحتاج إلى وسادة الذكريات، أو إلى الحبة المنومة.
هذا سر آخر من أسرار «فريد» فى حياتى.
من بستان قصائدى
«نموت دون نعى
نموت دون جنازة
نموت بدون ذكرى
نموت دون كفن
يشترون حياتنا
ولا نقبض الثمن»