رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكاتدرائية وتاج الشوك





و كأننا نعيش أسبوع الآلام ويتجسد أمامنا من جديد والدموع والدماء التي ذرفها ونزفها المسيح لم تكن كافية للفداء وليكف المخربون والقتلة أياديهم عن التخريب والقتل فاشتعلت الحرائق.. وفي ليلة واحدة احترق التاريخ مشعلو الحرائق أشعلوها من اليمين إلى اليسار والعكس كانت الكاتدرائية تحترق وكان المسجد الأقصى يحترق وعلى قدم المساواة ولم يدفع الناس بعضهم لبعض كما أمرهم الله فأحرقت الصوامع والبيع والمساجد التي يذكر فيها اسم الله كثيرًا الكنائس والكاتدرائيات ليست بيوت شرك التاريخ يمكث في كاتدرائيتنا في فرنسا.
نعم أنها كاتدرائيتنا نحن.. كاتدرائيتنا التي بكاها قداسة البابا في بيان جدًا حزين وتضامن رئيس بلادنا مع مصاب الفرنسيين لانه مصابنا ومصاب الإنسانية جمعاء إنه إرث حضاري وإرث للبشرية لا إرث فرنسي فإرثهم ليس لهم وإرثنا ليس لنا تلك هي الحضارة يا سادة.. الحضارة التي صنعتها الإنسانية للإنسانية ولتكون ملكًا للجميع.. تقربنا من أنفسنا ومن إنسانيتنا ولا تباعد.. ولكن هل يفهم كل ذلك مشعلو الحرائق ممن يقتلون الطير والإنسان والحيوان والشجر والحجر.. وبمنتهى الأريحية والثبات هل تعلمون يا كرام ما تحويه تلك الكاتدرائية من نفائس.. جزء كبير من التاريخ وإرث الإنسانية يمكث هناك..في برجها وبين جدرانها.
تاج الشوك الذي غرسه الجهل والغل وغرسته الكراهية في رأس وجبين المسيح موجود هناك.. وصار التاج بمرور الزمن والتصاقه بالمسيح قطعة أثرية لا تقدر بمال بل جزء من الصليب الذي صلب به المسيح -او شبه لهم - موجود بالفعل هناك أجراس النوتردام وأكبرها يلقب باسم ( ايمانويل ) والذي تعلق في حباله الأحدب الشهير الذي ألهم مخيلاتنا ودفع أثمان باهظة من أجل حماية الكاتدرائية وأجراسها التي عاش وأفنى عمره متجولا بينها فصمت آذانه من اجل ان نسمع نحن الأجراس وهي تقرع عندما أحب الأحدب فتاةً قرع لنا الأجراس ليعلمنا أن نبتهج لمن نحب وبمن نحب عندما قبلته حبيبته بعد إنقاذه لها.. طار الأحدب الشهير بين حبال الأجراس ليعلمها بأنه سعيد وأنه قد أحب.. فلقد إلتفتت للأحدب فتاة جميلة بعد أن عافته أمه وتركته وتخلت عنه ولقبه الجميع بالقبيح الأحدب واعتبروه نصف وحش ونصف إنسان وأطلقوا عليه اسم ( كوازي مودو ) وطاله الظلم والجلد مرارًا لقبحه ودون ذنب جناه.. ولان من يحب لا يعرف للأنانية سبيلا فقد آثر الأحدب ترك حبيبته ( أزميرالدا ) للشاب الذي أحبته هي وأنقذها من الموت ليسلمها لشاعر الثورة الفرنسية ( بيير ) ويعيشا معًا.
فتلك الأجراس هي التي أعلنت لنا عن انتهاء الحرب العالمية الثانية.. وكانت مواكبة لأحداث الثورة الفرنسية التي مازالت تلهم الجمهوريات في الشرق وفي الغرب وحتى عهد غير بعيد وستظل هكذا شاهدة على ما كان.. محفزة للقادم والغد القريب والبعيد أما برجي الكاتدرائية الشمالي والجنوبي فكانا أطول برجين في باريس منذ ٩٠٠ سنة وحتى تم بناء برج إيفيل على يد المعماري الذي بنى لنا كوبري أبو العلا في القاهرة وبذات الطراز المعماري.. وعندما لم يفتح الكوبري لخلل تقني ما..انتحر الفنان الفرنسي في نيلنا لشعوره بان غضب ما قد حل أو سيحل عليه.. فالفنان الفرنسي كان يعي جيدًا أن لمصر تاريخها وتاريخ أجدادها الفراعنة وما ألصقت بهم من لعنات فآثر الرحيل كي لا تطاله تلك اللعنات أو ظنًا منه أن اللعنة قد أصابته وطالته بالفعل ولا سبيل للخلاص منها الا بالموت.
لقد كنا منذ عهد ليس ببعيد نستقي من بعضنا البعض وينهل هذا من ذاك قبل أن تطل علينا عوالم التفسخ والتشرذم ويخاصم نصف الكوكب الشرقي نصفه الغربي ونسمع ترهات تخص الكفر والأصنام وعبادتها ونسمع عن مخبول يريد هدم الأهرامات كما أراد أبرهة هدم الكعبة ويصير الأثر مجرد حجارة في نظر قصار النظر ويفرح بل يشمت مشعلو الحرائق عندما يحترق أو يكسر أثر فالبرج الإبري الذي احترق في الكاتدرائية يرجع تاريخه للقرن ال ١٣ كذلك الواجهات الزجاجية الوردية العملاقة الثلاثة والمصنوعة من الزجاج المعشق النادر الطراز ( البيانو العظيم ) كما يطلق عليه والذي يرجع تاريخه للعصور الوسطى ورغم تجديده عدة مرات إلا أنه مازالت مواسير وقطع أصلية موجودة فيه وتم الإبقاء عليها 76 لوحة أصلية ضخمة طول كل واحدة منها يزيد على الأربعة أمتار.. تجسد العديد من المشاهد التاريخية في العهد الجديد.. مواقف للقساوسة، صلب سانت بيتر وتحول سانت بول ولوحة سانت توماس الشهيرة الموجودة في مدخل الكاتدرائية والتي تعتبر معلم ثقافي وحضاري وارث إنساني إن فقدناه.. فقدنا جزء كبير من ذاكرتنا وإنسانيتنا.
فمن زار الكاتدرائية أو حتى قرأ عنها أو قرأ رائعة فيكتور هوجو الخالدة أو حتى شاهد الفيلم السينمائي الشهير ( أحدب نوتردام ) أو فيلم ( البؤساء ) سيتذكر تاريخ تلك الكاتدرائية وشوارع باريس المحيطة بها والتي يعود بعضها لزمن العصور الوسطى وإبان قيام الثورة الفرنسية وما آل إليه حال البرجوازية هناك وقصاص الفقراء من ماري انطوانيت آكلة الكورواسون والبيسكوي وشعبها يحتضر ويتضور جوعًا فاخترع لأول مرة في التاريخ مقصلة لجذ رؤوس الفاسدين من البرجوازيين والمتواطئين معهم من رجال الدين لتقوم ثورة تعلمت منها البشرية أسمى معاني الليبرالية وحق الفرد المطلق في التعبير وإبداء الرأي واحترام وقبول الآخر لأقصى مدى وما أعقب ذلك من ثورة فكرية وثقافية أبهرت وعلمت بقية سكان الكوكب على اتساعه لتظل معالم وشوارع باريس وأطلالها على نهر السين وصمودها أمام الزمن شيء يبهر العالم..لذلك سقطت دموع من يعي ويدرك كل ذلك وهو يشاهد بنفسه احتراق جزء أصيل لا يتجزأ من ذاكرتنا وحضارتنا متمثل في كاتدرائيتنا فسقط برجها العتيق..و سقطت معه قطعة من التاريخ بل قطع من الزمن لا تقدر بمال ولا يمكن تعويضها.