رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الدراما.. قطرة الماء التى تُفتت عيوبنا


يؤكد علماء الاجتماع أن الأسرة أحد العناصر المهمة للوجود الاجتماعى للمجتمع الإنسانى، وعليها تقوم الوظيفة الأساسية فى تحقيق استمرارية الحياة الاجتماعية، وهى باعتبارها نواة المجتمع يقع على عاتقها مسئولية إعداد جيل قادر على التكيف مع المتغيرات المعاصرة ومواجهة تحدياتها، وتحسين نوعية حياة أبنائها.
يقولون أيضًا إن الأسرة هى وسيط الاتصال الذى يضمن تلاحم الأجيال وتكافلها، والانفتاح على الثقافات المختلفة، وتحقق التواصل والبناء مع المجتمعات الأخرى.. وقد توصل العديد من الدراسات إلى أن هناك تغيرًا واضحًا فى نمط الحياة الأسرية المصرية، سواء فى الريف أو الحضر، بفعل ما تتعرض له من ضغوط نفسية واجتماعية، كانت السبب المباشر فى تغير نمط حياتها، وتكثر هذه الضغوط فى الحضر، أكثر منها فى الريف.. وعليه فإن التمسك بالقيم والعادات والمبادئ فى الأسرة المصرية الحضرية يكاد يكون منعدمًا، بينما ما زالت الأسرة الريفية متماسكة ومتمسكة بالقيم والعادات والمبادئ الأخلاقية الموروثة، ولذا فإننا نجد أن التغير الواضح فى الأدوار والمكانات داخل الأسرة الحضرية أفدح فى المدن منها فى الريف.
وحتى وقت ليس بالبعيد، لم يكن العنف مطروحًا على المفردات القيمية للمجتمع المصرى، لكنه تغلغل فيه نتيجة للحراك الاجتماعى الذى أفرز تغيرًا فى التركيبة المجتمعية لشرائح كثيرة منه، بالإضافة إلى تسلل قيم غريبة لبعض الطبقات الاجتماعية، نجحت فى النيل من تماسك النسيج المجتمعى لدى شرائح من المصريين لا يُستهان بها، وحدث تلوث سمعى وبصرى وعشوائية اجتماعية أفرزت انفلاتًا أخلاقيًا، واكبه تحول عنيف فى أشكال الجرائم التى تطورت شيئًا فشيئًا، وأصبح انتهاج القسوة والعنف، خاصة بين ذوى الروابط القوية، مثل الآباء والأبناء، أمرًا يدعو للقلق، فالحالات الفردية أصبحت متكررة إلى حد الظاهرة المجتمعية.
لذلك، ورغم مرحلتى العمرية، وجدتنى مشدودًا لمتابعة أحد أعمالنا الدرامية المتميزة، مسلسل «أبوالعروسة»، ولم أجد صعوبة نفسية فى متابعة مائة وعشرين حلقة منه، عبر «اليوتيوب»، خلال أيام معدودة. سرقتنى أحداث الحلقات، واحدةً تلو الأخرى، بعد أن أدخلتنى فى «يوتوبيا» اجتماعية غائبة عن واقعنا، أعادت إلى نفسى هدوءها، وأيقنت معها أن الحياة ما زالت حلوة، وأن ما نفتقده الآن يمكن استعادته والعيش فيه، إن لم يكن من أجلنا، فعلى الأقل من أجل أولادنا وأحفادنا، فـ«الأغانى لسه ممكنة».. فهذا المسلسل الذى يطرح دراما حياتية يومية، هى الألصق بواقعنا، الفرق بينها وبين الواقع، هو بمقدار الفارق بين الحكمة والغوغائية، بين الهدوء والإعصار، بين الود والضغينة، بين التسامح والترصد.. عمل درامى يُفجر فينا طاقات إيجابية هائلة، تجعل من أبنائنا أمانة فى أعناقنا، وأن سلامتهم النفسية، وراحتهم اليومية هى مسئولية خالصة للأب والأم، لا تتحقق بالمال وحده، بل بالتفاهم والحوار والإصغاء، ومعايرة كل موقف وفقًا لظروفه وملابساته.. طرح المسلسل بين ما طرح من قيم تحض على لم الشمل وإحياء روح «العيلة» عيدًا مُقترحًا لهذه الأسرة، نحدده تبعًا لظروفنا، نجتمع فيه على الود والمحبة، تلتقى فيه الوجوه التى غيبتها أعباء الحياة وأرهقتها لقمة العيش، يُحيى موات القلوب التى ضاعت فى الزحمة.. وقد بلغت مصداقيته حدًا، تمنت فيه فتاة يتيمة أن يوافق الفنان سيد رجب، أو عبدالحميد أفندى، رب العائلة وأبوالعروسة «فى المسلسل»، على حضور حفل زفافها، عوضًا عن غياب والدها المتوفى.. وقد فعلها الفنان، وتعلقت برقبته الفتاة اليتيمة، ووجدت حضنًا أعاد لها دفئها الاجتماعى المفقود من فنان ظنت من صدقه وواقعية مسلسله أنه الأب الغائب.
لقد مر علينا زمن طويل، عكست فيه الدراما تلك الشخوص المشوهة التى ابتلى بها المجتمع، فأشاعت ثقافة العنف والرذيلة، الرشوة والمحسوبية، الغلبة للأقوى ولمن يملك الحيلة، وليس لمن يمسك بالحق ويتمسك بالفضيلة.. أخذت هذه الدراما بعضًا من المجتمع، وصدرت إلينا ما أصبح سيدًا فى هذا المجتمع.. وكم بُحت أصواتنا بأن الدراما هى المؤثر الفاعل فى سلوكيات الأفراد، تتسرب أفكارها وسلوكيات أبطالها إلى المجتمع فى هدوء، كالمرض الخبيث، لا يظهر على السطح، إلا وقد دمر كل خلايانا العصبية.. وحتى لا نكون ظالمين، فإن بعضًا من نوعية «أبوالعروسة» وقف وراءها أناس يدركون خطورة الدراما فى تربية المجتمع وتصحيح مساره، منها خماسية «سلسال الدم» التى كتبها مجدى صابر، و«سابع جار»، وكلها تؤكد على القيم الاجتماعية الأصيلة للمجتمع المصرى، وتبرهن على أنه لا يصح إلا الصحيح، حتى ولو غاب هذا الصحيح لبعض من الوقت.
أقول هذا بمناسبة قرب حلول شهر رمضان المبارك، ولمة العيلة الحلوة على مائدة الإفطار، وبعدها على مائدة الدراما، التى تقلصت أعدادها هذا العام، والتى أرجو أن نشهد منها ما يصب فى السياق ذاته الذى نناقشه الآن، فإن لم تكن كلها، فعلى الأقل جزء منها، فما أحوجنا إلى قطرة الماء التى تتساقط باستمرار ودأب على قطعة الصخر فتفتتها، وما قطعة الصخر هذه إلا كل سيئ أصاب نفوسنا، وكل عيب حل على سلوكياتنا، وفى انتظار قطرة الدراما التى تفتت هذه الصخرة التى جثمت على أنفاسنا، ونتمنى لها زوالًا.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.