رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أرقام صعبة فى المشهد السودانى



كانت السودان وعبر النظام الذى سقط منذ أيام للمفارقة أحد اللاعبين الرئيسيين والمساهمين فى الوصول بليبيا إلى أن تصبح نموذجًا يخشى من الوصول إليه
ذكر «جود ديفيرمونت»، كبير المحللين السابقين فى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بوكالة الاستخبارات المركزية، فى تقرير أعدته «فورين بوليسى» بعد ساعات من الإطاحة بالرئيس السودانى عمر البشير، وقبل أن يغادر عوض بن عوف منصبه، أى فى أكثر لحظات المشهد والأحداث السودانية سيولة- أنه «يلوح الخوف من ليبيا أخرى بالتأكيد فى أفق هذه المشكلة، المعضلة هى كيف تطيح بالبشير، دون تفكيك الدولة؟».
ربما تلك المعادلة التى ذكرها كبير المحللين تلخص حزمة، ليست بالقليلة، من الهواجس التى تلف جميع من له ارتباط بالمشهد السودانى، من داخله أو فى دوائر تأثيره الإقليمى، بالأخص جواره المعبأ فى الأصل بالعديد من تحديات الاستقرار. ربما ليبيا التى ضربها «ديفيرمونت» كنموذج لما قد ينزلق إليه المشهد السودانى، رغمًا عن إرادة كل الساعين لمحاولة الوصول إلى قدر من التماسك. كانت السودان وعبر النظام الذى سقط منذ أيام، للمفارقة، أحد اللاعبين الرئيسيين والمساهمين فى الوصول بليبيا إلى أن تصبح نموذجًا يخشى من الوصول إليه، بعد ثمانى سنوات كاملة من الاقتتال وفوضى الصراعات الدامية التى دمرت البنية الأساسية لكيان الدولة.
هذا دفع الكثيرين للتعامل مع ما يجرى فى السودان بقدر كبير من الحذر، وقبله بدرجة عالية من الاهتمام والمتابعة اللحظية، لما يجرى على الأرض ولمسارات تحرك الأحداث التى ما زالت «سائلة» إلى حد بعيد. وباستعراض الأرقام الفاعلة فى المشهد السودانى اليوم يبرز فى البداية من دون شك «تجمع المهنيين» باعتباره مشعل شرارة النزول إلى الشارع فى مواجهة نظام البشير. وهذه الحقيقة وحدها فضلًا عن قدرته على إدارة آليات الاحتجاج والاعتصامات التى وصلت إلى الإطاحة، شبه الكاملة برموز النظام، تجعل منه رقمًا فاعلًا لا يمكن تجاوزه، فهو قدم نموذجًا «حديثًا» فى تلك العملية التى بدأت عام ٢٠١٣، بإعلان تجمع من «٢٠٠ أستاذ جامعى» فى الخرطوم، وفق الحق فى تكوين الأحزاب السياسية والجمعيات والنقابات والاتحادات المهنية، لتعد بداية دفعت عددًا كبيرًا من المهنيين إلى تشكيل تجمعات مماثلة، مكنتها لاحقًا فى عام ٢٠١٦ من الاتحاد فيما بينها، لتقدم شكلًا من أشكال «النقابات المهنية المستقلة». كان أبرزها تجمعات للمحامين والصيادلة والبيطريين والإعلاميين، لتقدم نفسها إلى المجتمع السودانى فى يوليو ٢٠١٨، باعتبارها مكونًا سياسيًا ناضجًا له رؤية متكاملة فى التغيير. ولتظهر حينها بالمسمى الجامع «تجمع المهنيين السودانيين»، خاصة بعد فتح أبوابه لينضم إليه أعضاء من النقابات الرسمية والمستقلة على السواء، وليضم أيضًا عددًا كبيرًا من الحزبيين والمستقلين، الذين وجدوا المكونات السياسية القديمة وقد أصابها الجمود والترهل بعد ٣٠ عامًا من حكم «الإخوان المسلمين»، ظلت خلاله الأخيرة تستهدف تحطيم وتفتيت كل تلك المكونات، فضلًا عن استمالة العديد منها للدخول فى صفقات حكم وتبادل ومنح المصالح والعطايا.
التحرك الأول الذى قاده التجمع فى ديسمبر ٢٠١٨، دعا فيه للتحرك تجاه القصر الجمهورى لتقديم مذكرة للرئيس البشير، طالبه فيها بالتنحى، وتمكن بعدها سريعًا من حشد موكب ثانٍ فى آخر يوم من العام المنصرم، لتستمر بعدها مسيرات الاحتجاج ذات النفس الطويل، خلال شهرى يناير وفبراير، مما أجبر البشير على إصدار مجموعة من القرارات فى ٢٢ فبراير، تمثلت فى إقالة الحكومة وفرض حالة الطوارئ، وإرجاء التعديلات الدستورية. وتزامنًا مع ذلك تعيين ولاة جدد للولايات السودانية من القيادات المسلحة، مما أدى إلى اعتبارها قرارات لا تخرج عن كونها التفافًا على مطالب «تجمع المهنيين». وليصبح الأمر فيما بعد وكأنه «كرة ثلج» استطاعت أن تجد لنفسها مسارًا يتسلح بالإعلام الحديث «التواصل الاجتماعى» وإصدار البيانات الفورية التى تضرب مصداقية كل الإجراءات الرسمية من النظام، وترفضها لتشكل المزيد من المطالب التى بدأت تحاصر قدرة النظام على الفعل. ويتوج هذا المشهد ببروز مكون جديد يسمى اسم «قوى إعلان الحرية والتغيير»، ليصير هو الآخر ساحة تتلاقى فيها جموع أخرى من الأحزاب التقليدية والمعارضة، التى ارتأت أن الأحداث تتقدم بسرعة كبيرة، وأنها على شفا الخروج من المشهد إن لم تلحق به وتعلن موقفًا صريحًا من حكم البشير ونظامه.
هذا المكون السياسى الذى اتسم بقدر عالٍ من المرونة والديناميكية الذى ظهر فيه المكون الشبابى بصورة فاعلة متناغمًا مع شخصيات أكاديمية مستقلة يعيش ويعمل معظمها بخارج السودان- استخدم الإعلام الدولى وغير التقليدى بمهارة، وتمكن من الحديث والفعل السلمى بالصورة التى أكسبته مؤيدين جددًا ظلوا يتنامون عدديًا طوال مسيرة الأحداث، وصولًا إلى الاعتصام أمام بوابات القيادة العسكرية «المستمر حتى الآن». هؤلاء سيكونون رقمًا صعبًا لن تتمكن الأحداث أو الفاعلون من تجاوزهم بأى صورة، فهم جسم توحدت حوله إرادة التغيير، فضلًا عن انكشاف فداحة الحكم السودانى السابق على أيدى مكوناته المتنوعة، التى استردت اليوم القدرة على الخطاب والمناورة فى الشارع، وفى شاشات الأخبار، وعلى صفحات التواصل الاجتماعى النشيطة، والقادة الجدد الذين لم تلوثهم الصفقات مع النظام السابق.
لكن على الجانب الآخر؛ يظل شبح «المجموعات المسلحة» الموجودة على الأرض، فى الكثير من المناطق السودانية منها حركات التمرد المسلحة فى كل من دارفور وجنوب كردفان، التى تمثل اليوم تحديًا أمنيًا حقيقيًا للدولة السودانية، فهى مكونات استخدم نظام البشير فى مجابهتها كل أشكال القوة العسكرية، ولم يتمكن من حسم المواجهة معها لسنوات. وإن ظلت هذه المجموعات تلعب على هشاشة الأطراف، فما هو أخطر على المعادلة الأمنية ولم تبدأ فعلًا ملموسًا حتى الآن، هى «مجموعات الإخوان» المسلحة والموجودة بأعداد لا يُستهان بها، فهى موجودة بالعاصمة الخرطوم وضواحيها، وأيضًا فى أم درمان حيث القلب الشعبى المكتظ بالمواطنين والأحداث. هذا يجعل الأفعال الانتقامية المسلحة من القرارات الجديدة للمجلس العسكرى سيناريو وشيكًا ينتظر فقط شرارة اللهب، كى يعلن أنه هو الرقم الأصعب الذى ظل النظام الإخوانى السابق يعده طوال ثلاثين عامًا مضت.