رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كارثة نوتردام


ليلة سوداء، عاشها العالم كله، وهو يشاهد ألسنة النيران الحمراء والبرتقالية وسحب الدخان الكثيفة قاتمة جراء الحريق المروع الذى كاد يلتهم كاتدرائية نوتردام، أبرز معالم العاصمة الفرنسية باريس، وإحدى أكبر كنائس أوروبا، والتى احتفل الفرنسيون، فى ديسمبر ٢٠١٢، بمرور ٨٥٠ سنة على إنشائها.
الحريق اندلع نحو الساعة السابعة، بتوقيت باريس. وفى أقل من ساعة، التهم سقف الكاتدرائية والسهم الذى يرتفع إلى ١٥٠ مترًا. وبعد أن ظل مئات من رجال الإطفاء يكافحون الحريق لمدة ثمانى ساعات، تمكنوا من إنقاذ برجى الجرس والجدران الخارجية للكاتدرائية، إلا أن السقف انهار، كما انهار برج الكاتدرائية الذى يقترب عمره من الثمانية قرون. وبعد نحو ١٥ ساعة، أعلن «جهاز الإطفاء» فى باريس عن نجاحه فى إخماد الحريق.
الصدفة قد تكون مسئولة عن حدوث الكارثة قبل أن يمر شهر على تحذير قناة «CBS» الأمريكية، فى ٢٠ مارس الماضى، من كارثة مرتقبة قد تتعرض لها كاتدرائية نوتردام، تتمثل فى انهيار النصب المهيب الباقى منذ العصور الوسطى. وقد تكون مسئولة أيضًا عن قيام وكالة أنباء الأناضول، لسان حال الحكومة التركية، منذ يومين، بنشر تقرير عنوانه «فرنسا.. الاستعمارية.. نهب وإبادة واستعباد وحقائق محظورة»، بعد سلسلة تغريدات كتبها المتحدث باسم الرئاسة التركية، فى حسابه على «تويتر» هاجم فيها فرنسا والفرنسيين، والشىء نفسه فعله وزير خارجية تركيا ورئيس برلمانها.
من الصدفتين، ومن صدف أخرى غيرها، يمكنك استدعاء «نظرية المؤامرة»، التى استدعاها فرنسيون مستندين إلى فيديو غير واضح، انتشر عبر عدد من المواقع الإلكترونية لشخص يمشى فى الممر الخارجى حول الكاتدرائية أثناء الحريق، زعمت أنه ليس رجل إطفاء ولا رجل دين كاثوليكى. غير أن اللقطات عالية الوضوح، أكدت أن الرجل كان أحد رجال الإطفاء. وما قطع الشك بقدر من اليقين، هو أن وكالة الأنباء الفرنسية نقلت عن ريمى هيتس، مدعى باريس، أن المحققين يعملون على فرضية الحريق العرضى، وأنه «لا شىء يشير إلى أنه كان عملًا متعمدًا». وعليه، يمكنك أن تضع «نظرية المؤامرة» جانبًا، وأن ترجع الهجوم الرسمى التركى على فرنسا، وتلقينها وسائل الإعلام التابعة أو الموالية لها، إلى إعلان الرئيس الفرنسى، فى فبراير الماضى، اعتزامه، إحياء ذكرى «إبادة الأرمن» على يد الدولة العثمانية، فى ٢٤ أبريل الجارى. أما تقرير «CBS»، فيمكن ربطه ببدء عمليات ترميم الكاتدرائية.
تقرير «CBS»، كشف عن أن سنوات من الأمطار والثلوج أدت إلى تآكل دعامات وجدران الكاتدرائية، الأمر الذى يضعها تحت خطر الانهيار الكامل. وعرض صورًا تظهر انهيار أجزاء من المبنى التاريخى. ونقل عن «إيبارشية باريس» أنها لا يمكنها تحمل دفع ١٨٥ مليون دولار، هى تكلفة ترميم الكاتدرائية، وأن الحكومة الفرنسية تعهدت بدفع ٥٠ مليون دولار على مدار ١٠ سنوات مقبلة لترميم الكاتدرائية، تاركة ١٣٥ مليون دولار دون تحديد متى ومن أين سيتم جمعها. والمعلومة نفسها، تقريبًا، أكدتها جريدة «التايمز» البريطانية التى نقلت عن خبراء أن ترميم المبنى كان يحتاج ١٥٠ مليون يورو، لكن الدولة عرضت ٤٠ مليون يورو فقط.
ننصحك، إذن، بأن تترك، ولو مؤقتًا، نظرية المؤامرة، وأن تحاول استخراج موعظة أو عبرة، من عبارة «تفادينا الأسوأ»، التى قالها الرئيس الفرنسى، للصحفيين فى موقع الحادث قبيل منتصف الليل. وأيضًا، من الاستجابات السريعة لإعلانه عن حملة تبرعات لإعادة بناء الكاتدرائية. والتى لم تمر ساعات عليها، حتى تعهد الملياردير الفرنسى فرانسوا- هنرى بينو، بتقديم مائة مليون يورو لتمويل «جهود إعادة بناء نوتردام بالكامل». وكذا إعلان عائلة الملياردير الفرنسى برنار أرنو، أنها قررت التبرع بمبلغ ٢٠٠ مليون يورو و... و..... ويقال إن التبرعات اقتربت من المليار يورو، قبل أن تشرق شمس الثلاثاء.
.. وتبقى الإشارة إلى أنه فى ٢٧ أغسطس ١٩٤٤ طلب رئيس بلدية باريس مقابلة الحاكم العسكرى الألمانى للعاصمة الفرنسية، الذى كلفه الزعيم النازى أدولف هتلر بحرق المدينة، لو لم يستطع الحفاظ عليها من السقوط فى أيدى قوات الحلفاء. وخلال اللقاء أشار رئيس البلدية إلى كنيسة سانت شابيل ومتحف اللوفر وأبراج نوتردام، وقال بلهجة مؤثرة: انظر إلى تلك المبانى التاريخية الرائعة يا جنرال، وافترض أنك قد تعود إلى هنا بعد سنوات لتقول: كنت قادرًا على محو ذلك كله، لكننى انتصرت للإنسانية وفضلت ألا أفعل، أليس هذا انتصارًا أكبر؟.
بالفعل، اقتنع الجنرال الألمانى، وبعد ٢٢ سنة، عاد إلى باريس ليحكى قصة انتصاره الأكبر. وحين مات نشرت الصحف الفرنسية خبر وفاته تحت عنوان «الرجل الذى لم يحرق باريس».