رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السودان.. الانتفاضة السمراء والآمال الكبيرة



بدأت الانتفاضة السمراء البطلة بالخبز ولا بد أن تنتهى بالخبز فلن تشبع الجماهير من حرية حزبية ولا حرية تعبير على أهمية كل ذلك لكن الناس يحتاجون إلى حياة كريمة
شغلت الانتفاضة السودانية الأنظار والقلوب، ما بين القلق على مصيرها والإعجاب بإصرار الرجال والنساء اللاتى غمرن الشوارع، ليؤكدن أنه ما من ثورة حقًا بدون المرأة. ولقد بدأت الانتفاضة السمراء فى ديسمبر العام الماضى من مدينة عطبرة، احتجاجًا على رفع سعر الخبز من جنيه إلى خمسة، ولم يجد النظام وسيلة لإسكات المتظاهرين سوى فتح النيران عليهم.
سقط البعض قتلى وأصيب آخرون بجراح بالغة، وما لبثت الانتفاضة أن امتدت لتشمل مدن السودان، احتجاجًا على تدهور مستوى المعيشة وتخفيض قيمة الجنيه والاستبداد السياسى.
على مدى نحو أربعة أشهر غمرت الجماهير الشوارع فى مشاهد مهيبة، ترفع شعارها الأثير: «تسقط.. تسقط بس»، وبرزت صور المرأة السودانية التى يطلقون عليها «كنداكة» أى الملكة العظيمة، وهى تقود المظاهرات وترفع قبضتها عاليًا فى وجه الاستبداد. ولم تتراجع الجماهير أمام كل تهديدات الرئيس البشير، ولم تمد يدها لكل محاولاته للالتفاف على الانتفاضة.
وأخيرًا أعلن وزير الدفاع السودانى عوض بن عوف «السابق» أنه تم التحفظ على الرئيس البشير فى مكان آمن واعتقاله، وعلى حد قول الوزير الذى لم يلبث فى منصبة لأيام هو الآخر فقد «تم اقتلاع النظام». وأشار البيان الأول للجيش السودانى إلى حل مؤسسة الرئاسة ومجلس الوزراء وحكومات الولايات المحلية ومجالسها التشريعية، وأعلن وزير الدفاع فى الوقت ذاته وقف العمل بدستور ٢٠٠٥، وتشكيل مجلس عسكرى يتولى الحكم لمدة عامين لحين إجراء الانتخابات، ثم شهدنا جميعًا التطورات بعدها بخروج ابن عوف من المشهد، وتشكيل مجلس انتقالى جديد لإدارة البلاد.
وفى خضم الانتفاضة ما زال البعض يرى أن مشكلة السودان كانت حكم العسكريين بالتحالف مع الإخوان، ولكنهم لا يلمحون إلى أن مشكلة السودان كانت- وما زالت- مشكلة الطريق الرأسمالى المسدود الذى تغتنى فيه قلة قليلة، وتعانى الأغلبية الفقر المدقع. أعنى أن القضية ليست حكم عسكر، أو حكمًا مدنيًا، فهناك رؤساء مدنيون بلا عدد وضعوا بلدانهم فى المأزق ذاته: الجوع، والغلاء، وصولًا إلى الخبز الذى يمسى حلمًا فى بعض الحالات.
ولم يفشل الرئيس السودانى لأنه عسكرى أو مدنى، بل فشل لأنه مضى على طريق الانسياق الكامل لنظام اقتصادى، حدد طه حسين طبيعته بأن فيه: «يجد البعض ما لا ينفقون، ولا يجد البعض ما ينفقون».
بطبيعة الحال لم يعد سهلًا فى ظل نظام عالمى يشكل شبكة قوية من المصالح أن يظهر نظام سياسى مارق، يقف بمفرده فى مواجهة الرأسمالية العالمية، لكن على الأقل يطمح الناس، ومن حقهم أن يكون لديهم نظام ينحاز إلى الطبقات الفقيرة وإلى العدالة الاجتماعية بدرجة أو بأخرى.
لقد بدأت الانتفاضة السمراء البطلة بالخبز، ولا بد أن تنتهى بالخبز، فلن تشبع الجماهير من حرية حزبية، ولا حرية تعبير، على أهمية كل ذلك، لكن الناس يحتاجون إلى برنامج اقتصادى وسياسى واجتماعى محدد وواضح يرى أن الحياة الكريمة حق للجميع.