رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأثر

جريدة الدستور

لا شىء فى هذا الليل إلا نقيق الضفادع والصرير، وقفت أمام الشباك الأرضى وناديته باسمه: يا راجح.. راجح.. فتح، ولمعت عيناه الواسعتان من وراء حديد الشباك، وقال: مَنْ أنت؟
قلت: غانم المعداوى صديقك القديم.. أغلق الشباك وفتح باب الشارع وأدخلنى.
كان الفحم متوهجًا فى المبخرة الفخار، ولمبة الجاز على الحائط، جلس على أريكة عليها مرتبة قذرة، وأجلسنى أمامه وبيننا ترابيزة عليها صينية ألومنيوم كبيرة، وشمعدان بثلاث شمعات مضاءة، وبخور وبرطمانات وكتاب، قبَض حفنة بخور وأسقطها فوق الجمر فارتفع الدخان العَطِر وهو ينفخ فيه بأنفاس طويلة، قلت له: مختار مربوط؟ قال: لم أرك منذ سنين يا غانم ستعطينى جنيهين! ضربتُ كفًا بكف، ثم قلت باستياء: جنيهان مبلغ كبير، نحن صديقان قديمان يا راجح، قال: سأعطيك كوب ماء مملوءًا وعليك أن تسقيه كله لمختار إذا استطعت الوصول به سالمًا إلى البيت!! قلت مستغربًا: ومن سيمنعنى؟ نفخ فى الجمر وقال: الخدام!! ضحكت وقلت له: تخاريف، قاطعنى: لماذا أتيت إلىّ إذن؟ قلت: تعبنا ولم يعد أمامنا إلا أنت، وقف غاضبًا واتجه إلى غرفة تصدر منها رائحة كريهة مألوفة، دفع الباب، فتدافعت الدجاجات أمامه وصرخت، مكث دقيقة وأحضر شيئًا، وأغلق الباب وجلس حيث كان، رفعها أمام عينىّ وقال: ما هذه؟ قلت: بيضة، أمسك ملعقة وثقب بيدها البيضة فى النقطة المدببة برفق وبراعة، وفتح ثقبًا دائريًا صغيرًا، وقال لى: انظر، نظرت فى الثقب وقلت: صفار وبياض، قال: انظر جيدًا، قلت: صفار وبياض، وضع البيضة فى فنجان مهشّم الأذن، ورفع جلبابه لوسطه وأنزل السروال، تعرى وانكشف، قلت له: ماذا تفعل يا ابن الشيطان؟ لم يُعرنى أى اهتمام، وبجرأة ووقاحة بدأ طقوس العادة السرية وبصق فى يده مرات، عندما اقترب الماء الدافق من ملاقاة الهواء شهق وتأوه، أمسك الفنجان وأنزل قطرة ماء حياة تنز ببطء فى ثقب البيضة، أرجع ظهره وأرخى جلبابه وقرأ كلمات غير مفهومة، اقشعر لها جسدى، مد يده بالبيضة، وقال: إنظر الآن، ترددتُ لكننى تشجعت ونظرت، شهقت شهقة عالية وانقلبت على ظهرى مطروقًا على الأرض، سمعت آهتى وغابت الحواس.
أفقت على بصلة كبيرة وضعها أمام أنفى، أبعدتُ وجهى عنها وأنا أعطس، صب قليلًا من ماء الزير البارد فى كفى وغسلت وجهى وجلست، قال: ماذا رأيت؟ قلت: رأيت قطًا أسود عينيه واسعتين حمراوين كالدم، صرخ فى وجهى وظهرت أنيابه، وأذناه طويلتان كقرون الماعز، ومد يده وكاد يخدش عينى وانخلع قلبى فزعًا لمّا نظر القط لى، ابتسم راجح بغرور وقال: أين الأثر؟ فأخرجت من جيبى فانلة قطن بيضاء فيها عرق ورائحة مختار، قال: هل معك مطواة، أعطيته القرن غزال، اقتطع جزءًا من الفانلة على شكل صحيفة، وضع قلمه المصنوع من الغاب فى حبر خفيف وردى وبدأ الكتابة، ولما انتهى ملأ كوبًا من الألومنيوم بالماء وأغطس فيه القماشة، وترك الكتابة تتحلل فى الماء، وضع الكوب أمام شفتيه وتنفس فيه بكلمات غير مفهومة، لم تلتقط أذناى منها غير «العجل العجل الساعة الساعة»، أعطانى الكوب وقال: عليك أن تصل به سالمًا، أعرف أنك تستطيع، استفسرتُ عن الحبر الذى ذوّبه فى الكوب، قال: لا تخف، ماء ومسك وزعفران، وشدد: يجب أن يلتهب الفأس حتى الاحمرار وتكون الكتابة حول السرة.
العتمة لم تكن مطبقة، كان القمر فى السابع، أنتقل من جسر إلى جسر، شعرت بحرارة تسرى فى جسدى وعرق غزير، كنت أضع يدًا تحت ويدًا فوق، رغم الحرص كان الماء يندلق وكأن أيادى خفية تحاول انتزاعه منى، لم أكن أحفظ إلا الفاتحة، أقرأها بصعوبة بالغة، أنتقل من غيط إلى غيط، وأسرع الخُطى للوصول بالكوب ممتلئًا، ابن الشيطان أخذ جنيهين، مبلغ يكفى البيت شهرًا، لعنة الله عليه، التوت قدمى فجأة وأوشكت أن أتهاوى، ألقيت بظهرى إلى نخلة واستندت عليها واستعدت توازنى والكوب بين يدىّ، مكثت للحظات حتى هدأت أنفاسى، وأكملت السير وأنا مندهش، لم أتعثر فى شىء، كنت أفكر مَنْ الذى سيكتب الآية حول سرة مختار، تسعة رجال لا نعرف الكتابة.. مأساة.
عبرتُ المصرف على فلق النخل، وأنا فى المنتصف رأيت على الضفة المقابلة قطًا أسود كالليل، عيناه تلمعان كقمرين مثبتين فى المحاجر، الكوب الألومنيوم بين كفىّ، قدماى متسمرتان على فلق النخل، وهذا القط يقف حائلًا بينى وبين باب البيت، كلما جاءت عيناه فى عينىّ يقشعر بدنى وأرتجف، أردت أن أتقدم وأرفسه بقدمى، لكنى تسمرت، نظرت إلى نصف القمر فى صفحة الماء وإلى القط الذى حولتنى عيناه إلى حجر حى، ودون أى شعور بالخزى صرخت كالحريم، لم أكن خائفًا إلا على الكوب، خرج الجميع، رأونى متسمرًا على فلق النخل فى النور الخافت.
أسرعوا نحوى، قلت لماهر: القط.. أبعد القط، نظروا جميعًا حولهم وقالوا: لا توجد قطط!! قلت: ساعدنى لأعبر، عندما لمسنى تحررت قدماى، ونحن نتجه إلى بيتنا التفتُ خلفى، كان القط جالسًا لم يتزحزح من مكانه خطوة واحدة.
دخلنا بسلام، ودخل الجيران بيوتهم ينهشهم الفضول، عندما أصبحنا فى صالة البيت سمعت صوتًا فى داخلى يحدثنى، «الكوب فارغ»، كان الجميع يحاولون الاطمئنان علىّ، اتجهت صوب الحمام وأغلقت الباب والشباك، ولسان لمبة الجاز المشتعل لا يهتز، قلت مستحيل، هذا لا يمكن، كنت أطبق بكفى على الكوب مكفيًا على فمه وليس فيه قطرة ماء!! جلست على كرسى الحمام الخشب مذهولًا ويائسًا لا أصدق ما حدث، ولا أعرف ماذا أفعل، لمع خاطر فى ذهنى، قمت وملأت الكوب ماء من الحنفية، وخرجت وأنا أقرأ الفاتحة فى سرى عدة مرات وأنا أقلد ابن الشيطان «الساعة الساعة!!»، ناديت مختار وقلت له: اشرب بسم الله، رفع الكوب على فمه، قلت: بالشفاء إن شاء الله، وصرخت: أوقدوا الفرن، أريد نارًا شديدة، جلست أستريح ثم أخذت فأسًا ووضعته فى النار، سألت الجميع: أريد أحدًا يستطيع الكتابة، قال ماهر: أسماء ابنتى تدرس فى كُتّاب الشيخ محسن، وتكتب الفاتحة وسورًا كثيرة، أيقظتها أمها بصعوبة، وحدثت مشادة بين زوجة أخى وبينه، وأقنعها ماهر بأنها لن تفعل شيئًا خطيرًا، واستسلمت لإصرار زوجها وتركت البنت، قبّلت أسماء وضممتها فى صدرى، انحنيت عليها وقلت: هل يمكنك قراءة الكلام فى هذه الورقة؟ أمسكتها أسماء وجلست واعتدلت كأنها ستقوم بتسميع سورة أمام الشيخ، قالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم «ما جئتم به السحر إن الله سيبطله»، قلت لها: أريدك أن تكتبى لى ما فى هذه الورقة، سألت: أكتبها أين؟ قلت لمختار: نم واكشف بطنك؟ قلت لها: هنا، وصنعتُ دائرة بإصبعى حول السرة، وضعت العسل الأسود أمامها، وقلت: القلم إصبعك والحبر عسل، جلست أسماء فى خجلها الشديد وغمست إصبعها فى العسل، وكلما حاولت لمس بطن عمها ارتعشت وأبعدت يدها، نظرت لأبيها وقالت: «بابا مش قادرة أكتب أنا خايفة»، حاولت أنا وأخى ماهر دفع أسماء لكتابة الآية ولكن لم نستطع، قلت: لا بأس، وطلبتُ من أسماء أن تقف عند رأس أخى مختار وتتلو الآية عليه سبع مرات، أخذت تقرأ حتى أتمت القراءة، قبّلتها واحتضنتها لذكائها وبراعتها، وأعطيتها بريزة كاملة، وأنا أتنهد: العلم نور، أخرجتُ الفأس من النار وهو جمرة حمراء، وأمرت مختار بأن يتبول عليه.. عندما دوت الزغاريد والفرحة تمت وانفك المربوط وبطل السحر، كنت مغمورًا بالأوجاع والضحكات، وأنا أقول لنفسى: من الحنفية!! دخلت سريرى لأنام بعد ليلة لن أنساها وأنا أضحك بشراهة: من الحنفية، جنيهان!!، وعندما أغمضت عينىّ واسترخيت لمع فى ذهنى خاطر لحوح وسؤال عجيب: مَنْ الذى ربط مختار عن عروسه؟.