رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الثقافة الشفاهية وعلوم الفهلوة



عند استخدام «الثقافة الشفاهية» قد تخوننا الذاكرة فتتغير تفاصيل الموضوعات وقد تُحفز البعض على التلوين والتزييف أحيانًا
نعم، «الثقافة الشفاهية» ليست مصطلحًا جديدًا، ولا مفهومًا يتداوله أهل المعرفة والدراية بقضايا التنوير والرأى والكلمة حديثًا فحسب، فلطالما عانى المناخ الفكرى لدينا من أهل ثقافة جلسات المقاهى، ومتابعى برامج الراديو والتلفاز، وزبائن حوارات التواصل الاجتماعى «المزاجنجية»، بما يفتكسونه من المداومة على طرح عناوين ورءوس أقلام لنقاشات دون الغوص فى متن المدركات الأولية لمخزون ثقافى متكامل لديهم.
لقد عانينا كمواطنين من رجع صدى تلك الثقافة، التى تنزع نحو التزويق الشكلى وتعظيم الذات فى آن واحد، فثمة ارتباط مظهرى بين الثقافة الشكلية القشرية وبين دعاة التأليه والتضخيم الذاتى المرضى، وهنا تكمن مأساتنا بشكل حصرى، فى مدى ما يحصده هؤلاء من مكاسب بضم أتباع جدد كل يوم من المخدوعين البسطاء بقشور معارفهم الزائفة.
ويسألونك عزيزى القارئ عن أسباب انتشار سلوكيات الخبص والغيبة والنميمة والافتتان بصناعة الشائعات، وفنون صياغتها الماكرة، التى قد تسهم بدورها فى نسج المؤامرات والتحايل على امتلاك القلوب والعقول بمعلومات مغشوشة، عبر تسريبها بنعومة وبعبارات كاذبة، تصاغ برومانسية لا تخلو من دهاء، فقل لهم هى سلوكيات سلبية كريهة، تُعد فى الغالب نتاجًا طبيعيًا لاعتماد مجتمعى للكثير من منتجات الثقافة السمعية.
فى أزمنة الحضارات التاريخية الكبرى، وفى الصدارة منها الحضارة المصرية القديمة، ومنذ بداية التاريخ الإنسانى، كان حرص الإنسان البدائى هائلًا على التدوين والكتابة والرصد، ولعل من أروع الأمثلة على ذلك الرسوم التى أبدعها على جدران الكهوف من الداخل، والتى سجل بها معاركه مع الحيوانات المفترسة، ورغم مشاعر الخوف والرعب التى كانت تتملكه، فقد حرص على رصد تفاصيل تلك المعارك على الجدران الداخلية لتلك الكهوف المظلمة تمامًا، وبأدوات بدائية قام بتصنيعها؛ ليبدع أجمل الأعمال التى اتسمت بروعة استيعابه قواعد وأساسيات علوم التشريح للجسم الإنسانى، وكذلك أجساد الحيوانات، بل والأهم رسمها وهى فى حالة الحركة السريعة، وكأننا أمام مشاهد سينمائية متلاحقة، ولم يرصد أى دارس للفنون أى أخطاء حرفية فى تلك الرسوم، سوى ملاحظتهم فى بعض الكهوف وجود رسوم فوق رسوم؛ نتيجة العمل فى عتمة حالكة!.
وها هى تلك الجداريات أمامنا بعد مرور كل تلك الآلاف من السنين تنقل لنا بكل أمانة وصدق رسومًا هى أبجدية، حروفًا قد تم فك شفرتها لتسرد لنا حكاوى حضارة بشرية مكتوبة ومرسومة، رغم كل تلك الصعوبات، يقابلها الآن فى واقع الأمم المتراجعة حضاريًا وإنسانيًا ثقافة الاستسهال إلى حد الاستهبال فى بعض الأحيان، باعتماد آليات العنعنة والنقل والاتباع، دون إبداع أساليب جديدة للرصد والتقييم والتأريخ، تتماهى مع منجزات العصر الحديث من تقنيات أبدعها الغرب المتقدم حاليًا؛ لنقصرها على أهداف استهلاكية ساذجة؛ لتبقى ثقافة الشفاهة تمثل حالة مخزية للأسف.
عند استخدام «الثقافة الشفاهية» قد تخوننا الذاكرة، فتتغير تفاصيل الموضوعات، وقد تُحفز البعض على التلوين والتزييف أحيانًا، إضافة إلى أن قدراتها الاستيعابية محدودة على النقل والحفظ، بينما الحضارات الكبرى كلها تأسست على التدوين والثقافة المكتوبة المدونة الأصيلة، لكن المجتمعات النامية التى لا تريد الصعود فيما يبدو، ما زالت فى غالبيتها تهفو للثقافة الشفاهية والسمعية، ربما لأنها لا تحتاج لجهد البحث والتوثيق والقراءة.
الثقافة الشفاهية قد تكون سببًا لحدوث العديد من الظواهر السلبية التى قد تحتاج لمساحات كبيرة لرصدها وتعدادها، لكنها فى الوقت نفسه نتيجة العديد من الظروف التى تحتاج للمواجهة ومراجعة السلوكيات، بعيدًا عن ثنائيات الثقافة الحدية الخايبة، فالدنيا إما ليل أو نهار، أو أبيض وأسود فقط، وعليه كان ضروريًا إعلاء صوت العقل والضمير الإنسانى على أى نبرة أخرى، وبغير ذلك ستظل مجتمعاتنا حبيسة الفكر «الماضاوى» أكثر من الانحياز لفكر المستقبل.
الكل يباهى بثقافة شكلية، وتأليه الذات المُدعية، وعندما يصل الأمر إلى جموع الناس «الجهلاء البسطاء»، يتخلى الكل عن مسئولياته، بل ويتعامى عنها، فتكون ثقافتنا نخبوية شكلية ضعيفة متردية تفتقر لدورها الحقيقى القائم على نشر ثقافة المضمون البناء.