رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ملك ناسا.. فاروق الباز: بدأت كتابة مذكراتى والحب فى حياتى مثل الماء والهواء

جريدة الدستور

سباح فى بحر العلم والمعرفة، عاشق للبحث، بدأ رحلته من أعماق قرية «طوخ الأقلام» بالدقهلية، وحمل أحلامه وطموحاته حتى وصل إلى أن يلقب بـ«الملك» أثناء عمله فى وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا».
إنه العالم الكبير الدكتور فاروق الباز، إحدى أبرز القامات العلمية المصرية فى العصر الحديث، والذى كشف، فى حواره مع «الدستور» عن ظروف نشأته، وتأثيرها على مسار حياته، وأسباب حبه دراسة الجيولوجيا، والصعوبات التى واجهها.
وتحدث الخبير الدولى فى علوم الفضاء، مدير مركز الاستشعار عن بعد فى جامعة بوسطن، عن رؤيته للمعوقات التى تواجه التطور العلمى والتكنولوجى فى مصر، وتقييمه للتوجه الحالى للدولة فى زيادة الاعتماد على مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة.

■ بداية.. كيف أثرت النشأة فى حياة العالم الكبير فاروق الباز؟
- تأثرت كثيرا بالنشأة الريفية، فوالدى من مواليد قرية «طوخ الأقلام» بمحافظة الدقهلية، وحين انتقلنا للقاهرة، بحكم عمل الوالد، ظل الوالدان يفضلان قضاء كل صيف فى القرية، التى تتبع مركز السنبلاوين، بلد أم كلثوم. وكانت القرية تتسم بالتربية الريفية المحافظة والحياة البسيطة والقلوب النقية، وكان يسعدنى كثيرًا أن أرى أقاربى وهم يزرعون الأرض، ويعملون فى تربية الحيوانات، ويستمتعون بالإنتاج الزراعى فى كل موسم، لذا بدأ اهتمامى بالأرض الخضراء فى وقت مبكر. كما كان والدى الشيخ السيد محمد الباز رجلًا أزهريًا ومتدينًا جدًا ومثقفًا جدًا، ويحب القراءة والاطلاع كثيرًا، وكان يقرأ أمامنا ما أورثنا احترام الكتاب والرغبة الدائمة فى جمع المعرفة من كل أبوابها. وكان أبى فى غاية الروعة، فقد كان متفتحًا جدًا ولم يكن يميز بين الولد والبنت على الإطلاق، على عكس الشائع فى زماننا، كما كان حنونًا على الجميع، ويترك لجميع أبنائه حرية الاختيار، ويشجعنا على ما نحب. ووالدتى أيضًا كانت متفتحة وذكية ورحيمة بكل محتاج، وتحترم الصغير قبل الكبير، فمثلًا كانت تطعم السائق قبل الضيف، وتقول: «السواق تعبان يا ابنى.. البيه اللى بيوصله قاعد مرتاح، والسواق هو اللى بيشتغل». وكانت بالنسبة لى «ملاكًا» يمشى على الأرض، خاصة أنها عملت على تربيتى أنا وإخوتى أحسن تربية، ولم تحرمنا من شىء طوال حياتها وكانت لنا منبع الدفء والحنان.
■ كيف بدأ تعلقك بعلم الجيولوجيا؟
- بدأ حبى للجيولوجيا مبكرًا عندما كنت فى السنوات الأولى من دراستى الابتدائية، وكنت وقتها عضوًا فى فريق الكشافة، وأشعر بسعادة كبيرة أثناء الرحلات التى قمنا بها فى المدرسة، خاصة إلى منطقتى الجبل الأصفر وجبل المقطم فى شرق القاهرة. وعندما بدأت الدراسة فى كلية العلوم تعلقت أكثر بالجيولوجيا، واهتممت بدراسة الجبال والصخور، وفكرت وقتها فى أن أمنحها كل وقتى وأتخصص فيها بشكل كامل.
■ هل واجهت أى اعتراضات من الأسرة على اختيار هذا المجال؟
- لا مطلقًا، فالأسرة لم تتدخل فى اختياراتنا أنا وإخوتى، ولم تجبرنا على دراسة مجال معين، بل تركت لكل واحد منا تحديد المجال الذى يرغب فى الدراسة به.
■ ألم تفكر فى دراسة أى مجال آخر قبل التخصص فى الجيولوجيا؟
- حدث هذا عندما كنت فى الثانوية العامة، فوقتها فكرت فى الدراسة بكلية الطب، وشعرت بأنى أفضلها على ما سواها، لكن مجموعى فى الثانوية لم يسمح بذلك. وبعدها بدأت أفكر فى البدائل المتاحة أمامى، خاصة أنه كانت لدى فرصة للدراسة بكلية طب الأسنان، لكنى فضلت دخول كلية العلوم ودراسة الجيولوجيا، التى كنت أميل إليها كما قلت.
■ سافرت مبكرًا إلى الولايات المتحدة لاستكمال دراستك.. فما الصعوبات التى واجهتك فى هذه المرحلة؟
- واجهت فى رحلتى للولايات المتحدة عددًا كبيرًا من الصعوبات، فالمعيشة فى بلد غريب لا تعرف فيه أحدًا تعد من أصعب الأمور على الإنسان، خاصة فى سن صغيرة، بالإضافة إلى ما يواجهه المغترب من اختلاف الثقافات والعادات والتقاليد. وفى الولايات المتحدة واجهت حقيقة أن الجميع يتكلمون لغة غريبة، ويأكلون ما لا أعرفه، فى الوقت الذى كنت فيه مطالبًا بالتعايش مع ذلك، من أجل استكمال دراستى العلمية. ووقتها بدأت فى تحدى نفسى وقررت التعايش مع المجتمع وأن أثبت جدارتى فيه، خاصة أن مثل هذه المجتمعات لا تحترم أحدًا إلا إذا فرض نفسه وأثبت قدراته، وهذا ما مثل حافزًا كبيرًا لى وساعدنى على العمل المستمر من أجل التميز والنجاح.
■ ما أكثر اللحظات التى شعرت فيها باليأس والاكتئاب؟
- أصعب لحظات حياتى كان بعد عودتى إلى مصر، وقد حصلت على شهادة الدكتوراه فى الجيولوجيا، عندها طلبت منى وزارة التعليم العالى تدريس الكيمياء فى «المعهد العالى» بالسويس فرفضت لأنه تخصص مختلف عن تخصصى. بعدها رفضت الوزارة تعيينى فى أى جامعة أخرى، رغم أن ٤ جامعات أخرى كانت قد طلبت منى العمل بها، لذا بقيت دون وظيفة أو مرتب لمدة ٦ أشهر، وكنت وقتها متزوجًا، وضعت زوجتى ابنتى الثالثة فى هذه الفترة، التى كانت عصيبة جدًا فى حياتى، لكنى لم أكتئب أو أشعر باليأس.
■ كيف بدأت رحلتك مع العمل فى وكالة «ناسا»؟
- كان ذلك عند عودتى مجددًا إلى الولايات المتحدة، وأثناء العمل فى برنامج «أبولو» فى السنوات من ١٩٦٧ إلى ١٩٧٢، ساعتها تم اختيارى سكرتيرًا عامًا للجنة اختيار مواقع الهبوط على سطح القمر. وعملت على ذلك فى ٦ رحلات، أى أنى كنت المسئول عن هبوط ١٢ رائد فضاء على القمر، وكان ذلك يمثل تحديًا كبيرًا بالنسبة لى. وعملى كان يتضمن تحديد المواقع المناسبة للهبوط، وتدريب رواد الفضاء على انتقاء عينات مناسبة من أحجار القمر وتربته، بغرض إحضارها إلى الأرض لتحليلها ودراستها. وكانت اللحظة الفارقة فى مسيرتى تتمثل فى وصول رائدى الفضاء «نيل أرمسترونج»، و«باز ألدرين» سالمين إلى سطح القمر، بعد تدريبهما على الموقع الذى حددناه بعد دراسات مستفيضة، وهو النجاح الذى سعدت به كثيرًا جدًا.
■ وفقا لخبرتك.. كيف تنظر إلى محاولات مصر دخول عصر الفضاء والأقمار الصناعية.. وماذا عن دورك فى ذلك؟
- مصر كانت من أوائل الدول التى دخلت هذا المجال، لأنها بدأت مشروعها فى منتصف السبعينيات من القرن الماضى، ومع ذلك لم نحرز تقدمًا كبيرًا أو كما يجب، ومن جهتى، لم أكن مطلعًا على ما حدث فى مصر من تقدم فى مجال الفضاء طيلة العقود الماضية، كما أن خبرتى ليست فى مجال صناعة الأقمار الصناعية، وإنما فى استخدامها.
■ هل ترى أن مصر تسير حاليا على الطريق الصحيح نحو التقدم فى هذا المجال؟
- مصر ما زالت فى أول الطريق، ورغم أنها فى السنوات الماضية لم تتحرك كما ينبغى ولم تتقدم للأمام إلا أنى أعتقد أنها تفهمت ذلك فى الوقت الراهن، لذا أرى أننا نسير فى الطريق الصحيح حاليًا.
■ من وجهة نظرك.. ما أكثر الأشياء التى تعطل تقدم المصريين فى هذا الاتجاه؟
- أكثر شىء يعطلنا هو تدهور التعليم خلال السبعين عامًا الماضية، رغم أن التعليم فى طفولتى كان ممتازًا، وكان يتخرج فيه أناس يهتمون بالعلم والمعرفة ويساعدون غيرهم على التعلم ويقومون بأدوارهم فى إطار وطنى خالص.
بالإضافة إلى أن الإعلام تراجع خلال السنوات الماضية عن دوره الحقيقى وفقد قدرته على الاهتمام بمصالح الناس وصحتهم وتعليمهم وتثقيفهم.
ومع ذلك، أعتقد أن الإعلام يمكنه حاليًا الأخذ بزمام المبادرة وتصحيح أخطائه، ودعم الإصلاح فى هذا العهد الذى يشهد توجهًا وانفتاحًا من الرئيس عبدالفتاح السيسى نحو الإصلاح.
■ اتجهت مصر مؤخرا لتكنولوجيا إنتاج الطاقة النظيفة والمتجددة.. فهل تعتقد أننا قادرون على تحقيق إنجازات حقيقية فى هذا المجال؟
- أرى أن علينا أن نزيد من اعتمادنا على الطاقة الشمسية بالتحديد، فرغم أن البعض يرى أن الأهم هو التركيز على الاتجاهات النووية، إلا أنى أفضل الاعتماد على هذه الطاقة، وإن كنا يجب أن نمتلك الخبرة فيها على أى حال.
■ بعيدا عن الجيولوجيا.. متى سيكتب الدكتور فاروق الباز سيرته الذاتية؟
- بدأت إعدادها بالفعل، وأعمل حاليًا على صياغتها فى كتاب حتى يمكن للأجيال المقبلة الاطلاع عليها، ومشروعاتى المستقبلية كلها تتعلق بالكتابة، وسأكتب فيها عن كل ما تعلمته فى مجال الفضاء والجيولوجيا والصحراء، وكيفية تدريب الأجيال المقبلة من العلماء.
■ ما دور الحب فى حياة فاروق الباز؟
- الحب مثل الماء والهواء، فهو مهم جدًا فى حياة الإنسان، والحمد لله، تربيت منذ صغرى فى جو عائلى يشمله الحب الدائم، ثم كافأنى الله بزوجة رائعة، تحملتنى كثيرًا، ولدى ٤ بنات و٧ أحفاد هم كل حياتى، وأحبهم كثيرًا، وحبى لهم يزداد يومًا بعد يوم.
■ ما الأغانى والأفلام التى تحبها؟
- أنا من زمن العظماء، لذا أستمتع جدًا بأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وسيد درويش وسيد مكاوى ومحمد عبدالمطلب وشادية ونجاة، وكل مطربى هذا الجيل العظيم، وأحب أفلام زمان وأشاهد الأفلام الكلاسيكية، ولا تعجبنى السينما الحديثة أبدًا نظرًا لصخبها، لذا أصنف نفسى كواحد من عشاق زمن الفن الجميل.
■ ماذا عن نوعية الكتب التى تحب قراءتها؟
- الكتب هى أعز ما أملك فى هذه الحياة، وما زلت أقتنى فعليا آلاف الكتب، حتى بعد أن أهديت معظمها لمكتبة الإسكندرية، بالإضافة إلى ما أهديته قبلها وبعدها لعدد من المدارس.
ومن جهتى ليس لدى فى الدنيا شىء أهم من القراءة، لذا فأنا أقرأ فى جميع المجالات، من الأدب للفكر للجيولوجيا، فالقراءة بالنسبة لى حياة.
ما الرسالة التى تبعث بها إلى الشباب؟
- أقول لهم: أنتم مستقبل الأمة العربية، وعليكم الحصول على العلم والمعرفة قدر الإمكان، حتى تستطيعوا بناء الوطن الذى تأملونه، وأؤكد أنه لن يخرجكم من المشكلات الحالية والخيبة المزمنة التى نعانى منها إلا العلم والمعرفة. احصلوا على أكبر قدر من العلم والمعرفة، واحترموا بعضكم البعض، وعاملوا الجنس الآخر بكل احترام ومودة، فليس فى الدنيا أهم من الشعور بالقبول بين الزملاء، وذلك لا يكون إلا بالاحترام المتبادل بين الرجال والنساء، خاصة فى مرحلة الشباب. ادعموا بعضكم البعض، وحاولوا الوصول إلى ما يسعد الغالبية منكم واحترموا رأى الآخر كما تحترمون آراءكم.