رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ونائم لا يُرى

جريدة الدستور

فضّلت الجلوس على هذا الجانب من المقهى المطل على كورنيش المندرة، أحب الناصية الجانبية التى تقع على ناصية الشارع، ففيها يتجمع الهواء فى دوامة تغمرنى بالانتعاش اللذيذ، رذاذ خفيف ندَّى وجهى لم تستطع المظلة التى فتحها عامل الكافيه أن تحرمنى من تناثره على وجهى وملابسى، الشتاء ساحر هنا، وهذه الجلسة وفى نفس المكان هى التى تنادينى دائمًا للمجىء من مدينتى الساحلية إلى عروس البحر باذخة البهاء، طقوسى معها هكذا، الصباح المقهى وهذا المقعد الجانبى، وبدايات الشتاء والشمس المخضوضرة، وفنجال القهوة الفرنسية وعيونى تطالع الرائحين والغادين، تأتى بهم من نهاية هذا الشارع حتى بدايته ثم تتحول إلى الكورنيش ومشاهد النساء ثقيلات الوزن وخفيفاته، والرجال أيضًا وقد لبسوا ملابس وأحذية رياضية وبخطوات سريعة وهمّة لا تخطئها العين، الإصرار على التغيير يملأ عيونهم، منهم من يمشى منفردًا، ومنهم من اصطحبت زوجها أو اصطحب زوجته، أو صديقتان أو صديقان، هذا المشهد يبعث فىّ مشاعر رائعة، كأن الحياة تطل من قرص الشمس لتتنسمها هذه الوجوه المحبة لها.. التفتُ ثانية لنهاية الشارع، لمحتُ امرأة ملأت عينى من بعيد، تدفع عربة أطفال، ممشوقة القوام ممتلئة قليلًا، اقتربت أكثر، ترتدى فيست ورديًا وبنطلونًا أسود، تركت شعرها الأصفر للهواء يفعل به ما شاء، اقتربت.. تبدو أنها جاوزت الأربعين بقليل، ما أجمل ملامحها، كل تقسيمة فى وجهها دقيقة وناعمة، وحدهما عيناها العسليتان اللتان اتخذتا مكانًا أوسع فى وجهها البيضاوى الحليبى المشرَّب بالحمرة، نظراتها دافئة حنون، اتجهت للكافيه، تعرف أين ستجلس، تبدو متآلفة مع المكان، رفعت العربة بيديها وضعتها أمامها، جلست إلى المنضدة التى بجانبى، كانت المفاجأة التى لم أستوعبها، العربة لا تحمل طفلًا، العربة فارغة إلا من ببرونة ولعبة تصدر صوتًا مجلجلًا، تستعملها الأمهات لإسكات الأطفال حين يبكون، صرفت نظرى عنها حتى لا تشعر بفضولى، أشفق عليها.
عاودنى الوجع الذى شعرت به حينما حكت لى جارتى العقيم عن حالة لازمتها لسنوات وأرَّقت من حولها، فقد كانت تسمع صوت طفلها، الذى لم يولد أبدًا، آتيًا من غرف منزلها أو من مطبخها أو صالتها، فتهرول له والهة تحمله وتهدهده وترضعه حتى يهدأ وينام.. حملتها فى ذاكرتى وكلما عاودتنى ذكراها، ردَّدت فى نفسى: رحمك الله يا فاطمة، لعلك الآن من ملوك الجنة، احتضنتِ أمنيتك فى صدرك حياتك كلها ثم متُّما سويًا.. انتبهت على صوتها تطلب من النادل أن يأتى لها بالزبادى بالعسل والنارجيلة برائحة التفاح كما هو المعتاد، انحنى النادل على العربة يحرك اللعبة برقة ويضحك للنائم الذى لا يُرى، ضحكَتْ وقالت له: أدهم كبر شوية صح؟ بثقة قال: أيوه يا هانم أصبح يعرفنى، لم يكن يعرفنى من قبل.. أخرَجَت الببرونة من جرابها بعدما أحكمت غلق غطائها وأمالتها على النائم الذى لا يُرى، واستغرقت فى الغناء له بصوت حنون طروب، أعطيتها أذنى وطار خيالى هناك بعيدًا بعيدًا.