رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أمريكا وسياسات الإبادة «١»


السلوك الأمريكى لا يُقيم اعتبارًا إلا لمواضع القوّة الغاشمة ويعتبر أنه مفوضٌ لفرض إرادته على كل أركان وخيرات المعمورة

أود أن أقدم للقارئ المصرى، وإن مُتأخرًا، مُفَكِّرًا سياسيًا متميزًا، وباحثًا أكاديميًا مُتمكنًا، لا يعرفه، للأسف الشديد، الكثيرون من مواطنينا، ولا أظن أن اسمه معلوم، أو كُتبه متداولة حتى بين أغلبية المثقفين والمعنيين بالفكر والسياسة فى بلادنا، فهو ليس لاعب كرة بارزًا أو فنانًا مشهورًا، وإنما هو، وباختصار، مناضل من طراز رفيع، لم يمتشق سلاحًا، ولم يخرج فى مظاهرات تهتف بـ«يسقط» أو «يعيش»، وإنما عكف لسنوات طوال على جمع وقراءة ودراسة وترتيب تاريخ ووثائق ومحفوظات الأرشيف الأمريكى، لكى يستخرج منها ما يُفيد أمته، ويستل من بين أضابيره ما يُنير الطريق أمام أبناء جلدته حتى يأخذوا حذرهم، ويعرفوا عدوهم، ويستعدوا لمواجهات المصير!
البروفيسور «منير العكش»، كاتب، ومفكر، ومؤرخ سورى المولد، فلسطينى الانتماء للأرض والقضية. أستاذ الإنسانيات، ومحاضر فى الأدب العربى بجامعة «سفوك»، فى «بوسطن»، بالولايات المتحدة الأمريكية، ورغم رفعة موقعه فهو لم يلتفت لرغد العيش وسمو المكانة التى أهلته لها كفاءاته العلمية وتفوقه المعرفى، ولم يخش تحرشات العنصريين الأمريكيين، ولا تهديدات الجماعات الصهيونية المُنبثّة فى الخلايا الأمريكية، وإنما سعى لكى يضع كل ملكاته فى خدمة أهله وحقوقهم المشروعة ومستقبل أجيالهم، فقدَّم للعقل العربى ما لو قرأه واستوعبه، لما أصبح فى حاجة إلى انتظار وعود لا تتحقق، والتعلق بحبال واهية لا تلبث أن تُمَزَّق، ولعمل بجدٍ واجتهاد لحماية مصيره، والذود عن كيانه، وتأمين ثرواته ومصالحه.
قدّم د. العكش للقارئ العربى، مجموعة متتابعة من المؤلفات المتماسكة، غير المسبوقة، يأخذ كل منها بنهايات الآخر، لكى يكتمل كيانها الشاهق المنسجم، وكلها تهدف إلى تفكيك بنية الرؤية الأيديولوجية والمعرفية، الكامنة فى عناصر نشأة الولايات المتحدة الأمريكية، وفهم وإدراك كيف تَشَكَّلَ تاريخها، وانبنى وعيها، وتكونت الأيديولوجية الحاكمة لتصرفاتها، وهى العوامل الموضوعية التى تقف من خلف ما نشهده من سلوكها اليومى الإجرامى الفظ، الذى لا يُقيم اعتبارًا إلا لمواضع القوّة الغاشمة، ويحتقر البشر وحقوقهم، ويعتبر أنه مفوضٌ لفرض إرادته على كل أركان وخيرات المعمورة، على نحو ما نعاينه ونعانيه يوميًا، وخاصة فى ظل الرئيس الحالى: «دونالد ترامب»، ومن أهم هذه الدراسات: «أمريكا والإبادات الجماعية: حق التضحية بالآخر»، «أمريكا والإبادات الجنسيّة»، «أمريكا والإبادات الثقافية: لعنة كنعان الإنجليزية»، «تلمود العم سام: الأساطير العبرية التى تأسست عليها أمريكا»، «دولة فلسطينية للهنود الحُمر»، «أمريكا والكنعانيون الحُمر»، «عشيات الكوخ: حكايات الهنود الحُمر»، «محاولة لفهم أمريكا»، «عن حوار الحضارات وحرب استئصال الأصالة»، وغيرها من دراسات عميقة ومنهجيّة.
فى مفتتح كتابه «أمريكا والإبادات الجماعية»، يُثبت الكاتب مقولة دالّة، يرجع عهدها إلى عام ١٩٩٦، قائلها «مايكل هولى»، (من نشطاء هنود شعب سو)، نصّها الدامى يقول: «تاريخنا مكتوب بالحبر الأبيض (أى الذى لايترك أثرًا ولا يُرى). إن أول ما يفعله المنتصر هو محو تاريخ المهزومين، ويا الله ما أغزر دموعهم فوق دم ضحاياهم، وما أسهل أن يسرقوا وجودهم من ضمير الأرض! هذه واحدة من الإبادات الكثيرة التى واجهناها وسيواجهها الفلسطينيون... إن جلاّدنا المُقدّس واحد!».
لقد أدرك الهنود الحُمر، بعد فوات الأوان، الطبيعة الجهنمية لـ«الحُجاج» الإنجليز الذين وصلوا إلى أرض أجدادهم الهنود الأقدمين، ملفوظين، فتحايلوا حتى أسسوا أول مستعمرة فيما صار يُعرف اليوم فى الولايات المتحدة بـ«إنجلترا الجديدة»، الأصل الأسطورى لكل التاريخ الأمريكى ومركزيته الأنجلو ساكسونية، ثم كان ما كان من مذابح وأهوال تعرض لها الهنود الحمر الطيبون، على النحو الذى أصبح منهجًا أمريكيًا نراه مُجسدًا أمامنا كل يوم، وهو ما سنُفصِّله فى المقالات القادمة.