رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد العسيرى يكتب: جاب اليُسرى


فى مثل هذه الأيام منذ ما يزيد عن مائة عام انشغل المصريون.. النخبة منهم بالتحديد.. بهُوية مصر.. شغلتهم فكرة إحنا مين؟.. «إحنا مصريين وبس» لأننا فراعنة.. ولّا «إحنا فراعنة مسلمين».. ولذلك فالأتراك «العثمانلى» لهم علينا الأمر.. وعلينا الطاعة.. على اعتبار أن هناك فى «الأستانة» عرش الخليفة.. ولّا إحنا مع الإنجليز.. لأنهم أهل الحضارة الغربية الحديثة الذين سيخلصُوننا من المحتل القديم التركى، حتى وإن كانوا احتلالًا جديدًا.
كان الأمر برمته مرافقًا لرغبة أجنبية قضت بتغيير شكل مصر من «خديوية».. إلى «سلطانية».. ولقب الحاكم التابع من «خديوى» إلى «سلطان».
ومع رفض الحاكم.. وإشاعة حواريه للرفض المصرى بين عموم المشايخ وقد كانوا فى صدارة المثقفين.. علت نبرة إننا «مسلمون».. وإننا فى «جناح الباب العالى» ضد المحتل الغاشم.. فما كان من ذلك المحتل إلا أن استخدم الحيل والألاعيب بأن هدد بأنهم سيأتون بحاكم أجنبى للبلاد.. واستعانوا برجل خلفيته إسلامية.. اسمه «أغاخان».. ونزل إلى الناس وموالدهم.. وصدّق المصريون أنهم سيأتون بأجنبى ليحكمنا.. وكأنّ من كان يحكمنا فعلًا من مصر.. أو هو مصرى أبًا عن جد.
أثناء تلك الحيرة، راح المصريون يفتشون فى تراثهم وجذورهم ويلجأون إلى «شفيع».. وقد وجدوا ضالتهم فى «السيد البدوى».. نعم.. فهو ولى من أولياء الله.. شهد له الجميع- فى الحكايات طبعًا، فلا أحد رأى ذلك بعينه- بأنه فك أسر المحبوسين الذين أسرهم المحتل.. ولمَ لا؟.. فهو قادر على فك أسر المحبوسين الجُدد.. وقد كانت الأسطورة تقول بأن إحدى السيدات أُخذ وليدها فى الحرب.. فذهبت تستنجد بأحمد البدوى، فأمرها بالعودة إلى منزلها، فلما عادت وجدت ابنها فى المنزل وفى يده «الأساور»، وقد فُكت.. فغنّت «الله الله يا بدوى.. جاب الأسرى» ثم تحولت إلى «اليسرى.. ثم البشرى.
المهم ما الذى يُذكّرنى بهذه الحكاية الآن بعد ما يزيد عن مائة سنة!! أقولها لكم بأريحية شديدة، نحن نعيش نفس الأجواء تقريبًا.. أو بالأحرى شبابنا يعيش نفس هذه الحيرة الآن.. هو لا يعرف لمَن ينتمى؟.. لمحمد رمضان اللى قالع عريان وعامل فيها عشرة سوبر مان، ويعرض غناءه الهابط المستفز وسط هيلمان.. وآلاف من الشباب الذى يقلده ويجد فيه قدوته.. أم للذين ينتقدونه ويتمسكون بطريقة تقليدية للنجم.. للقدوة؟
تلك الحيرة.. هى جزء من بحث عن هُوية جيل جديد.. بعضهم وجد ضالته فى محمد صلاح ونجومية أهل الكرة.. «شهرة ومحبة».. و«فلوس».. والبعض الآخر يرى فى جيل سابق له من يسخر من «دماغ هذه الكرة ونجومها».. ويرى أنهم «شوية عيال بيجروا ورا بعض».. وملايين الأسر تمنع شبابها من تقليد هؤلاء فى ملابسهم وحركاتهم وقصات شعرهم، وتطالبهم بالسهر والمذاكرة.. ليفاجئك الشاب الصغير: «أذاكر علشان أطلع إيه؟».
كثير من تلك المفاهيم المتضاربة تجعلنا نحن الجيل الأكبر نشك أيضًا فيما اعتنقناه لسنوات دون حتى أن نفكر فيه، وربما نحتاج أحيانًا إلى استعادة ذاكرتنا لنستعيد بعضًا من قوتنا، ونؤكد على صحة ما اعتقدناه.. وما عشناه.. وربما وجد البعض ضالته عند إسعاد يونس، وبرنامجها «صاحبة السعادة».. وبعض حلقاته لعب بذكاء شديد على تلك الحالة من «النوستالجيا».. لكننى فى الوقت ذاته أجد تلك الحالة هروبًا من واقع نعيشه ونحتاج إلى مواجهته.
نحتاج نحن إلى الماضى.. إلى استعادة ذاكرته فقط لنعرف كيف كنا؟.. وإلى أين سنذهب؟.. نحن فى حاجة عاجلة إلى «حوار مع النفس» لنعرف ماذا نريد من هذا الحاضر الذى نعيشه اليوم.. وإلى أين سيمضى بنا وبأولادنا.. لن نحجر على المستقبل قطعًا، ولن نحدد لأولادنا مستقبلهم قطعًا.. لكننا مطالبون بألا نرمى بهم فى التهلكة.. مطالبون بألا نفرض عليهم «مسارًا إجباريًا»..
محمد رمضان بالمناسبة يمكن تقديمه للشباب كقصة كفاح رائعة.. شاب صعيدى. من أسرة بسيطة.. عافر وعانى حتى وصل إلى ما أراد.. وهذه القصة يمكن تحويلها إلى نمط يشجع أبناءنا فى كل مكان لتقليده.. لكن تقليد ما ينتجه من «تقليعات» وفن هابط لا يشبهه ولا يشبهنا.. هو الذى يحتاج إلى إعادة نظر.. وهناك جهات بعينها عليها أن تمارس مسئوليتها فى هذا السياق.. وأولهم هانى شاكر الذى ابتلع لسانه تمامًا ولا أعرف السبب؟.. فما يقدمه رمضان لا علاقة له بالغناء.. كما أنه «فى حفل عام» ولا يقدم ذلك من خلال «محتوى درامى» لتبرير ما يقدمه.. ومتعهد الحفل من المؤكد أنه معروف.
لا أريد أن «أذبح» محمد رمضان ومن هُم على شاكلته من «بتوع أغانى المهرجانات».. فالأيام وحدها كفيلة بطرد كل ما هو ردىء.. لكن وزارة الثقافة مسئولة عن تقديم فن حقيقى موازٍ.. فالشباب يحتاجون إلى ما يُفجر طاقاتهم.. واللوم ليس عليهم إن لم يجدوا ما يذهبون إليه وسط حيرتهم وفراغهم سوى هذه الفقاعات التى يقدمها أسطورة عصره وأوانه.