رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبد الشافي يكتب: الضوى.. سيرة آخر الأبطال


وقف الغجر فى الموالد فى ذهول من الطفل الذى حفظ أبياتًا من السيرة الهلالية، الولد الأسمر البشرة المدكوك الجسد، أصبح نجمًا صغيرًا يستحق الفخر الذى يسير به والده بين الرجال فى كل موالد مدينة قوص التى أصبح اسمها معروفًا فى أنحاء محافظة قنا وجنوب الصعيد بميلاد سيد الضوى على أرضها «فبراير ١٩٣٤ - سبتمبر ٢٠١٦». أوائل الأربعينيات حين بلغ العاشرة، كانت سيرة بنى هلال فاكهة الموالد وسهرة الأجداد فى القرى والنجوع، يستعيدون على الربابة قصة الفارس أبوزيد الهلالى البطل الذى جاء منقذًا لوالده رزق بن نايل، بعد أن فقد الأمل فيمن يرث عنه سيفه البتّار، وهى حكاية طويلة تروى بطولات قبائل بنى هلال الحجازية فى رحلتها من نجد إلى تونس الخضراء.
نجح الفتى الصغير فى تحويل السيرة الهلالية إلى حياة كاملة يرويها على ربابته وتتناقلها السهرات الشعبية فى الموالد والبيوت، لكنه ظل حارسها وحافظها الوحيد حتى ظهر شاعر معجون بطين الأرض وحلاوة شمسها، هو الخال عبدالرحمن الأبنودى فوقع فى غرامها هو الآخر واشتركا معًا فى جمع ٥ ملايين بيت شعر من السيرة، وعلى مدار ٦٠ عامًا ظل سيد الضوى قلب السيرة ونبضها الذى يبحث عن وريث، كما بحث رزق بن نايل عن أبوزيد الهلالى، وهنا جاءت عبقرية المخرجة السويسرية ساندرا الجيزى مع الفنان الشاب أحمد عبدالمحسن، حين صنعا معًا فيلمهما التسجيلى «سيرة آخر الأبطال»، حيث أقاما لمدة عامين كاملين فى بيت سيد الضوى وعايشا معًا حياة الفنان الكبير قبل رحيله، وحيرة الحفيد «رمضان» الذى يصطحب جده إلى الحفلات والموالد، ويحاول بكل جهد أن يحفظ ألف بيت على الأقل من الملايين الخمسة، لكنه حائر بين التمسك بالقديم وبين جديد الموسيقى والغناء، فهل ينجح فى تحويل السيرة إلى أغانٍ مشهورة كما فعل محمد منير حين غنى «يونس»، وهى جزء من الجانب الرومانسى فى السيرة، حيث تروى قصة الحب الشعبية الشهيرة «يونس وعزيزة»، وبين تلك الحيرة التى تنتاب الحفيد والرغبة الأخيرة للجد الكبير، تمضى أحداث الفيلم التسجيلى البديع الذى جعلنى أعايش حياة هذا الرجل المهيب والفنان الفطرى الذى اختار أن يكون واحدًا متفردًا لا ينشغل بشىء قدر اهتمامه بالسيرة التى تربى عليها وأعاد إحياءها، رغم عدم إتقانه القراءة والكتابة، تدور الكاميرا مع سيد «القوّالين» فى الحفلات والأمسيات وتأخذه من بيته إلى تجهيزاته البسيطة من الذهاب للحلاق، إلى إلقاء التحيات والسلامات على الحبايب، حتى إذا وصل إلى الحفل واعتدل فى جلسته وأمسك بالربابة، وبدأ فى سيرة أبوزيد وهو يقود القبائل نحو تونس الخضراء.
حياة يومية بسيطة تنتهى ليبدأ الليل بجلسات بين الجد والحفيد، يحاول الرجل المهيب تحفيظ «رمضان» آخر فرع فى شجرته، ربما يحمل الرسالة كما حملها أبوزيد عن رزق بن نايل، ويظل الأبنودى هو البطل الثانى الذى أزال الغبار عن السيرة، ونقلها من محيطها الشعبى البسيط إلى المسارح والحفلات الرسمية، لكن برحيل الأبنودى ظل «سيد الضوى» وحيدًا مع الحفيد يحاول تحفيظه السيرة بكل ما يستطيع من وسائل، ولجأ الحفيد إلى جهاز تسجيل متهالك ربما يحفظ كلمات الجد ويكتب أبياتها، بعدما سجل الكثير منها بصوت الجد، لكن الفارق الزمنى الكبير ومعطيات عصر الفتى الصاعد تغيرت عما سبق، أصبح الناس يتراقصون فى الموالد والحفلات على صوت محمد منير الذى أخذ مقاطع من سيرة «يونس وعزيزة»، وأعاد تلحينها وتأديتها لتكون واحدة من أشهر أغانى الجيل، فهل يُكمل الحفيد حفظ السيرة التى تبلغ ٥ ملايين بيت، أم يقتطف مقاطع هو الآخر ويراقصها؟، الأهم من ذلك كله هو هذا الاهتمام من مخرجة سويسرية لم تكن تعرف شيئًا عن السيرة وفنونها، لكنها ظلت تبحث وتتعلم العربية، حتى تواصلت مع مخرج مصرى شاب هو أحمد عبدالمحسن، وخاضا معًا تلك التجربة التى خلدّت سيد القوّالين فى فيلم مصنوع بمحبة للرجل ولقيمته التى جهلناها. فلم ننتج أفلامًا، ولم نصنع توثيقًا يليق بالرجل ومسيرته، ولا أعرف هل أقدمت وزارة الثقافة على جمع تراث السيرة وسيدها؟ وأتمنى أن تكون هناك أفلام أو تسجيلات مملوكة للدولة ويحق للأجيال المقبلة الاطلاع عليها، سمعت عن مشروع كبير يقوم به فنان شاب هو تامر عيسى مع المخرج حسن الجريتلى حول السيرة، ولكننى أيضًا لا أعرف معلومات عن هذا المشروع، بعض الأصدقاء أخبرونى بأن هناك تسجيلات توثق رحلة سيد الضوى مع السيرة الهلالية، قامت أكاديمية الفنون بإنتاجها لحساب وزارة الثقافة، وكل ذلك حسن وجميل لكننا لا نراه ولا نثق فى وجوده أصلًا، لكن فيلم ساندرا الجيزى وأحمد عبدالمحسن «سيرة آخر الأبطال»، يطرح السؤال حول ما يجب توثيقه كمشروع قومى يظل خالدًا.