رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سونج لانج: سيمفونية الحب العذري بين رجلين



ربما تعد السينما الآسيوية مبهمة بعض الشيء للجمهور المصري والعربي، فيما عدا الأفلام الهندية ونجومها التي تعد السينما الأشهر على المستويين الفني والثقافي من هذه القارة، إلا أن التوغل في الفنون الآسيوية وثقافاتها شيء من النادر أن تجده لدى جمهور منغلق على الأفلام العربية ونظيرتها التجارية الأمريكية بالإضافة إلى تصدر السينما البوليوودية للمشهد الفني بجدارة، إذ يتضح ذلك في تنافس الموزعين للحصول على أكبر كم ممكن من الإنتاجات السينمائية الهندية وعرضها بدور العرض جنبًا إلى جنب أفلام الموسم. ويبدو أن شركات الدوبلاج والترجمة اكتفت بالعمل على الإبداعات الهندية دون الالتفات إلى السينما اليابانية والصينية والإيرانية وباقي دول آسيا المنتجة للسينما بمعدلات متزايدة عامًا تلو الآخر.
شرُفتُ مؤخرًا بالتحكيم ضمن لجنة النقاد بمهرجان “شرم الشيخ للسينما الآسيوية” والذي منح جائزة سمير فريد إلى الفيلم الفيتنامي“سونج لانج”. في واقع الأمر، جاء القرار بعد عناء شديد تمثّل في الاختيار بين عدة أفلام آسيوية تستحق كل منها جائزة خاصة، حيث يمكن للمشاهد الانتقال إلى عالم كامل وحي من روائح البخور القديمة والموسيقى الناعمة عبر شاشة عرض ضخمة، ودون التحرك خطوة واحدة من مقعده، لما تتميز به الأفلام الآسيوية من مناظر طبيعية من شأنها أن تمثل دور البطولة في الفيلم، بل وتحصل على جائزة أفضل تمثيل في دور صامت.
من خلال التدرج التالي في إنتاجات فيتنام السينمائية يمكننا أن نرى مدى جدية مشروعاتها في الإصرار على خوض هذا المجال، واستعمال سرديات الحرب وما نتج عنها من تردي في الأحوال الاجتماعية بمثابة مادة فيلمية جديرة بالمشاهدة، إذ بدأت السينما الفيتنامية في عشرينيات القرن الماضي ووثقت على نحو كبير ما عانته خلال ثلاثين عامًا من الحروب التي اندلعت في البلاد منذ الأربعينيات وحتى منتصف السبعينيات.
لم تنتج فيتنام في أثناء الحرب الهندوصينية أي أفلام روائية سوى بعد توحيد فيتنام الشمالية مع جنوبها، بعد معاناة الانقسام التي دامت فترة الحرب، لتبدأ البلاد في إنتاج أفلام الواقعية الاشتراكية عقب الحرب في فترة السبعينات حتى اتجهت فيتنام إلى الأفلام الروائية الدرامية الطويلة في بداية الثمانينات، وبدأ الفيلم الفيتنامي في تأسيس سمعة جيدة عالميا بعد مشاركته في المهرجانات وحصوله على أرفع الجوائز.
“سونج لانج” كلمة فيتنامية تعني الأوبرا الشعبية في فيتنام، والتي تمكن المخرج ليون لي من الحصول على قدر كبير من حفلاتها مسجلة على شرائط الكاسيت، ونقلها معه إلى ولاية كاليفورنيا بعد هجرته مراهقًا في الـ13 من عمره، معلقًا على ذلك بأن “المرء باستطاعته الحصول على أي شيء في الولايات المتحدة عدا هذا الشيء" وأشار إلى كنز من تسجيلات الأوبرا الشعبية النادرة التي دار حولها فيلمه الروائي الطويل الذي يحمل نفس الاسم “سونج لانج”.
يدور سونج لانج حول صديقين هما إيزاك الذي لعب دور مغني الأوبرا، وليان الذي يلعب دور “بلطجي” مهمته تحصيل الديون بأشد الطرق قسوة، والتي تصل أحيانا للقتل وترهيب العجائز والأطفال. تخوض كاميرا المخرج في ذكرياته للكشف عن الأحوال الاجتماعية التي يعيشها مجتمع مدينة “سايجون” الفيتنامية في ثمانينات القرن الماضي، من الابتزاز والسرقات والدعارة وجميع ما يتوقعه المشاهدون من سوء أحوال تلت فترة الحرب الطويلة.
أثر الموسيقى لا يُرى.. لا يزول
قد لا تستطيع تغيير من أحببت، لكن ليان الشرس محصل الديون يمكن أن تغيره الموسيقى أو قُل يعود إلى أصوله التي نشأ عليها في كنف والده عازف الـ”دان نجيت” آله آسيوية وترية تصدر صوتًا رفيعًا حادًا يستخدمها العازفون في موسيقى اليوجا وجلسات التأمل، يتضح من مشهد الافتتاحية للشاب ليان في معبد بوذي ممسكًا آله موسيقية صغيرة في راحة يده وفي عينيه نظرة منكسرة، قائلا إن والده اعتاد ترديد جملة أن فن السونج لانج ليس آلات موسيقية تعزف، ولكنها تجسيد لإله الموسيقى نفسه. ليتفاجأ الجميع بأن الشاب ما هو إلا محصل ديون أجير في تكنيك محترف لجذب الانتباه باستخدام التناقض الذاتي للشخصية والمثير للفضول لمتابعة أحداث القصة.
تتشعب أطراف قصة حياة الشاب بين صراعات عديدة، وشك وإيمان في عدة مشاهد تتمتع بالتصوير المحترف ومونتاج يصل إلى حد الكمال، ففي واحد من المشاهد التي تعد بداية الرجوع إلى الطفل البريء تتمثل في جلوسه مع طفلتي أحد المدينين والمطلوب منه إجباره حتى يرد دينه، يقطع لهن ثمر التفاح فيسألانه عن ديانته بعد أن صلت كل منهما طبقا للديانة المسيحية، بعدها يتعارك مع الأب ليموت في المستشفى وسط بكاء الطفلتين، يذهب ليان بعدها إلى الكنيسة متأملا صور وتماثيل عن ديانة لم يعرفها من قبل، ويزيد من تساؤلاته قضاء ليلة في مشاهدة عرض الأوبرا من بطولة شخص أخر على قائمة المدينين. يقضي وقتًا في الكواليس وغرفة المكياج بين فناني الأوبرا بملابسهم الغريبة التي تذكرنا بأزياء فيلم “كازانوفا” للإيطالي العظيم فيديريكو فيلليني، فينصرف قبل تحصيل الدين ووقوعه في الحب، والحب هنا ليس جسديًا يمكنه أن يمارسه مع مغني الأوبرا تشاي وإنما أراد المخرج أن يعلم المشاهدون بأثر الموسيقى في وقوع شابين في الحب بدون أي تلامس جسدي من خلال أطول مشاهد الفيلم وأجملها في “ماستر سين” في تبادل الخصمين -باعتبار ما كان- الحمايات والذكريات وأمنيات المستقبل لينتهي لقاؤهما بالعزف والغناء الهادئ وإلقاء الأشعار الرومانسية.
داخل مدينة أنهكتها الحرب
للمونتاج دور الصدارة في مشاهد قطع على العرض الأوبرالي الأخير لتقديم مشاهد صراعات محصل الديون مع أعداءه الكُثر في أوقات تتناسب مع الصراع في القصة الأوبرالية ليصنع تناغمًا مميزًا تبدو خلاله الأدوار متبادلة بين أبطال المسرحية، وواقع مايحدث مع ليان وصراعات تحصيل الديون حتى يبكي تشاي علي خشبة المسرح عند مقتل البطلة الذي يتوافق مع توقيت مقتل ليان على بوابة دار العرض.
الفيلم في مجمله سيمفونية من الكادرات وزوايا التصوير والألوان والموسيقى التي لا تحتاج إلى حوار لشرحها بل هي حوار قائم بذاته، ينقل شعورًا أقوى وأعمق من حوارات تسمعها، يمكنك الشعور بثِقل الديون بعد الحرب، على كاهل المدينين وعلى المسؤول عن تحصيلها، ثقل الفنانين وصراعهم بين مهمة إسعاد الجمهور ومواجهة بلطجي عنيف قد يحطم رؤوسهم، وأيضًا ثقل علاقة حب عذرية بين رجلين تصلح كنهاية ملحمية لأوبرا شعبية على خشبة مسرح في مدينة أنهكتها حرب دارت بين قطبي العالم على أرضها.