رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رسائل راهب واعٍ إلى مُحدث رهبنة


على مدى تاريخ الكنيسة كتب آباء الرهبنة الأولين والمحدثين العديد من مذكراتهم بعضها موجه للرهبان حديثى الرهبنة، والبعض الآخر تأملات شخصية فى الحياة الرهبانية، والبعض الثالث نصائح غالية لروحانية القيادة فى الحياة الرهبانية. هؤلاء الرهبان تتبعوا- بصدق- خُطى آباء الرهبنة الأولين أمثال القديس أنطونيوس أب الرهبان والقديس باخوميوس أب الشرِكة الرهبانية والقديس شنودة رئيس المتوحدين وغيرهم.
من هنا حضر من الخارج العديد من عارفى فضل الرهبنة القبطية وأقاموا بين رهبان الصحراء المصرية ومنهم الأسقف «بلاديوس»- بناءً على تكليف من «لوساس» الذى يُرجح أنه كان من كبار حاشية الإمبراطور «ثيودوسيوس الثانى» حين اعتلى العرش عام ٤٠٨م- وقد أخرج لنا الأسقف «بلاديوس» كتاب «بستان الرهبان» وفيه سجل بكل دقة وأمانة أقوال آباء الرهبنة المصرية بعد أن قضى ما يزيد على ١٥ عامًا فى جميع الأديرة المجاورة للإسكندرية، حيث قابل حوالى ٢٠٠٠ راهب ممن يلتحفون بالعظمة والجد فى الحياة الرهبانية ثم أديرة وادى النطرون وأديرة الوجه القبلى وفيها اتصل بالنساك المقيمين هناك وعرف الكثير من التفاصيل عن حياتهم.. ومن مشاهداته لهؤلاء الآباء الرهبان، وسماعه منهم وعنهم، قام بتصنيف كل ما قام بتجميعه وأودعها- فى كتابه- لأجيال عديدة، سواء للرهبنة المصرية أو الرهبنة بالخارج.
واليوم أقدم نموذجًا رائعًا لأحد آباء الرهبنة المحدثين والمملوئين من كل نعمة وله تاريخ رائع فى الخدمة، سواء بديره أو بالكنيسة بالخارج، وقد التزم فى حياته بالفقر الاختيارى والتقوى الصادقة، فلم تكن له أى مقتنيات، لذلك رأى فى الرهبنة الحياة الملائكية الصادقة. ويخيل لى أنه وضع نصب عينيه نموذج الراهب مينا البراموسى المتوحد الذى صار فيما بعد البابا كيرلس السادس «١٩٠٢-١٩٧١» البطريرك ١١٦ وفيه رأى نموذجًا حسنًا للأبوة الفائقة. فكان هذا الراهب يجلس فى قلايته- بعد أن يقوم بواجباته الدينية- ويسجل العديد من مذكراته ويحتفظ بها لنفسه، ربما يعثر عليها أحد بعد ذلك ويستفد منها. وفعلًا حدث أنه تم العثور على مذكراته وهو فى أحد أديرة الصعيد، وذلك بعد رحيله المفاجئ والمُحزن، وتم نشر بعضها. فمن بين ما عُثر عليه بعض كلماته لمسئول فى الإدارة الرهبانية بغرض تصحيح المفاهيم الرهبانية!! فكتب يقول:
«هل تعى معنى الأبوة الروحية؟ هل تعى معنى الرهبنة؟ هل عشت مع رهبان ورأيت تنوع شخصياتهم ورهافة مشاعرهم؟ هل تعاطفت يومًا مع ضعيف بغرض كسبه لله؟ هل جربت أن تستمع لجميع الأطراف بحيادية؟ هل نظرت يومًا لمصلحة الكنيسة ولو على حسابكم؟ هل جربت أن تُظلم وتُجرد من أدواتك ظلمًا؟ هل تعرف أن الراهب هو إنسان فى المقام الأول؟ هل جربت أن تضع نفسك مكان أبنائك؟ هل جربت أن تأخذ قراراتك وأنت غير منفعل؟ هل جربت أن تضع نفسك مكان من تدينهم؟ هل جربت أن تكسب بدلًا من أن تستل سيفك؟ هل جربت طول الأناة؟ هل جربت أن تتكلم مع المُخطئ مباشرة وتفرح بروح الأبوة؟ هل جربت أن يحبك الرهبان أبناؤك وتستمتع بمشاعر الأبوة والمحبة؟ هل جربت أن يلتف حولك الضعفاء الخطاة وليس المهللون والخائفون فقط؟ هل جربت أن تتراجع كسبًا لتُعين ضعيفًا؟ هل جربت أن تستمع للصغير لأنه هو من سيدلك على أسباب الضعف؟ هل جربت أن تجلس مع نفسك ولو نصف ساعة يوميًا تحاول فيها التماس الأعذار وتهدئة نفسك؟ هل تعلم أن الغضب لا يصنع البر؟ هل تعلم أن الأبوة الروحية أقوى من كل قانون روحى؟ هل جربت أن تعطى وقتًا للرهبان والأديرة للاستماع لأن الرهبان هم عُمد الكنيسة، شئت أم أبيت؟».
للأسف لم تصلنى من تلك الكتابات الرائعة سوى صفحة واحدة، تلك التى قمت بنشرها الآن بكل صدق وأمانة، وأعتقد أن بقية تلك الكتابات بها العديد من المفاهيم الروحية السامية التى لا تخرج من أى إنسان عادى، بل من شخص قد اختبر بصدق معنى الحياة الرهبانية الحقيقية.
الرهبنة ليست زيًا أو شكلًا، الرهبنة حياة جادة تختلف عن حياة الإنسان العادى. وأمامى كتاب صلوات إقامة راهب، جاء فيه: متى أراد إنسان أن يصير راهبًا، فإنه يقيم عدة سنوات- تحت الاختبار- يتعلم قواعد الحياة الرهبانية، ويعظونه من كتاب «بستان الرهبان» للآباء الأولين، ويرشدونه إلى الفلسفة الحقيقية التى هى للرهبنة. وعندما ينمو وتصير تزكيته من جميع الآباء الموجودين فى الدير، تتم إقامته راهبًا ويقدم التعهدات الآتية:
«١» أتعهد أمام الله بأن أثبت على الإيمان الأرثوذكسى إلى النفس الأخير، وأن أحترم قوانين الكنيسة الجامعة الرسولية. «٢» أتعهد بأن أسلك حسب قوانين الرهبنة، معتزمًا بأنها موت عن العالم، وأن أبدأ بحياة الشركة فى الدير، وأبتعد عن محبة المال، وأتعهد بألا أدخل فى معاملات مالية مع أحد، حتى لو كان مع أسرتى وأقاربى إلا بموافقة رئيس الدير، وأبتعد عن محبة النصيب الأكبر. «٣» أتعهد بأن أعيش فى التزام بحياة العفة، وكذلك فى حياة الطاعة، محترمًا ناموس الدير وأنظمته احترامًا كاملًا، سالكًا بأمانة والتزام فى أداء كل واجباتى، وما يُعهد إلىّ من مسئوليات، وأن أكون أمينًا فى اعترافاتى، ولا أسلك حسب هواى ومشيئتى، ولا أترك لنفسى أن أشترك فى تذمر آخرين. «٤» أتعهد بالمواظبة على القراءة الشخصية فى الكتاب المقدس، والتأمل فيه، وبستان الرهبان وكُتب الآباء والمزامير والتسبحة، وصلوات مجمع نصف الليل والغروب، وارتباطى بحياة السكون والتأمل. «٥» ألتزم بالعمل الذى يوكل إلىّ، وأن أحب الكل وأخدم الجميع، ولا يعلو صوتى فى الدير، ولا أكون محبًا للترف. لا أسعى نحو النزول للمدن والريف بغير ضرورة مرضية، أو مهمة يكلفنى بها الدير. وألتزم فى هذه الحالة أن يكون محل إقامتى بمقر الدير أو بترتيبه بعيدًا عن الخلطة بالعلمانيين.
كم راهب وأسقف ملتزمون الآن بهذه التعهدات؟ للأسف نسى كثير من الأساقفة تلك التعهدات وانبهروا بالألقاب والتكريمات الزائدة فسببوا العثرة للشعب. لقد صار شعب الإسكندرية- بفعل فاعل- يتيمًا، من يتحمل مسئولية هذا اليُتم؟.