رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الجولانيون ومصير الهنود الحمر


فى عصور عديدة، استطاع المستعمر الأبيض أن يعيد كتابة التاريخ بحروف من دم، فاحتل إفريقيا ودولًا كثيرة فى آسيا، وأباد من سماهم كريستوفر كولومبس الهنود الحمر، لكى تبنى الولايات المتحدة على أشلائهم.. كما تمت محاصرة سكان أستراليا الأصليين لبناء دولة حديثة تحت التاج البريطانى.
الحكايات كثيرة ومؤلمة، وهى لم تتوقف فى العصور الحديثة، رغم وجود الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، التى أصبحت مع الأسف أحدث وسائل المستعمر لإعادة صياغة التاريخ فى مناطق أخرى بنفس الأسلوب الدموى.. وليس ما حدث فى العراق وأفغانستان ببعيد، أما ما يحدث الآن فى الشرق الأوسط تحت شعارات «الربيع الأسود» فهو ماثل أمام أعيننا، ودليل متجدد على أن المستعمر الأبيض القادم من الولايات المتحدة وأوروبا مستعد لأن ينقض بكل وحشية، وفى أى لحظة على أى دولة، من أجل السيطرة على مواردها أو الاستيلاء على أراضيها لتحويلها إلى قاعدة جديدة من قواعد العدوان.
ومنذ أن جاءت أحدث نسخة من هؤلاء المستعمرين، وسكنت البيت الأبيض باسم دونالد ترامب، والدماء لم تتوقف على الأرض العربية، وباقى المستعمرين - تحت قيادته- يرتكبون مزيدًا من الجرائم بلا خجل، مرة باسم مقاومة «داعش»، هذا الوهم الذى صنعوه ومولوه، ومرة باسم حماية من تبقى من الشعب السورى الجريح من أكذوبة الكيماوى، ومرة ثالثة بدعوى حماية المنطقة من أخطار إيران، التى رفعوا عنها العقوبات وردوا إليها المليارات، حتى يحبكوا الخدعة على الغافلين، الذين يصدقونهم.
الفرق بين ترامب ومن سبقوه من المستعمرين، أنه لا يهتم كثيرًا بتجميل جرائمه، لذلك لم يتردد فى إعلان اعترافه بالقدس عاصمة أبدية لدول الاحتلال الإسرائيلى، وعندما أدرك أنه لم يحدث أى ود فعل لجريمته الكبرى عاد اليوم ليعلن موافقته على ضم الجزء المحتل من هضبة الجولان السورية إلى دولة الاحتلال الإسرائيلى.. وكأنه يردد ما جاء على لسان «كاليجولا»، الإمبراطور الرومانى الطاغية: «غريب أنى إن لم أقتل أشعر بأنى وحيد»، وهو القائل أيضا: «أنا مذنب ولكن من يستطيع أن يحكم على فى عالم بلا قضاة».
الأحداث الجارية حولنا تؤكد أن مآسى التاريخ الدامية تتكرر على أيدى نفس المستعمرين وقطاع الطرق الذين يفرضون سطوتهم على المستضعفين فى العالم، والذين لم يتغير فيهم أى شىء سوى أنهم أصبحوا يرتدون بدلات أنيقة، للظهور بها أمام الميديا، التى تهمهم كثيرا، وقد حولوها أيضا إلى وسائل للقتل المعنوى للشعوب، أو لتسويق وتبرير جرائمهم المخزية.
وأنا لا أستطيع أن ألوم القتلة والمستعمرين وحدهم، فالضحايا لهم دور كبير فيما لحق بهم، بالخوف أو بالتردد أو نتيجة لرضائهم بأن يعيدوا سيرة الخراف، التى تحيا عمرها كله فى رعب من الذئب، ليذبحها الراعى فى نهاية المطاف.
وإذا خصصنا حديثنا على منطقتنا، سنرى أن المتاجرة بالقضية الفلسطينية حتى من بعض فصائل المقاومة، هى التى أدت إلى تراجعها والفشل حتى فى حل الدولتين الذى يظلم أصحاب الأرض الممتدة من النهر إلى البحر، وسنرى أن مزايدة الأسد الأب وصدام حسين على الزعيم الراحل أنور السادات، بالشعارات الحنجورية الزائفة هى التى باعدت الأمل فى استعادة الجولان على مدى أكثر من خمسين عامًا، وهذا التناحر والصراع على الزعامة ممن لا يملكون مقوماتها هى التى جعلت نار الربيع الأسود تنتشر بسرعة فائقة.
ربما لا يملك أى كاتب أو أى صحفى الحلول السحرية للمهازل التى يرتكبها قراصنة العالم ومستعمروه فى منطقتنا، ولذلك تبقى مهمة من يكتبون هى التذكير والتنبيه، دون الوقوع فى فخ جلد الذات.
فرغم كل غزوات الصليبيين وجيوشهم الجرارة، وشعاراتهم الكاذبة ومتاجرتهم بالدين، لم يتمكنوا من كتابة التاريخ على هواهم إلى الأبد، ولذلك تم تحرير بيت المقدس بعد احتلال دام ٧٥ عامًا، ولهذا يجب أن نؤمن بأن فلسطين عربية وستظل كذلك، وستبقى القدس عاصمتها وقبلة المسلمين الأولى، لأنها حقائق لا تقبل المجادلة، شاء ترامب أم أبى.
كما أن الجولان التى كانت تعرف بالهضبة السورية، وقد أصدر جيش الاحتلال الإسرائيلى بيانًا بعد احتلالها يوم ١٠ يونيو ٦٧.. جاء فيه أن «الهضبة السورية فى أيادينا».. وهذا البيان موجود فى أرشيف المحتلين وغيرهم لمن يريد أن يقرأ ولمن يريد أن يفهم.. وهذه حقيقة لن يغيرها ترامب، رغم جبروته واستهانته بنا.
لن يفلح ألف ترامب فى أن يمحو أحقية الفلسطينيين والعرب فى القدس، ولن ينجح فى القضاء على الجولانيين السوريين، بنفس السيناريو، الذى اتبع مع الهنود الحمر أو مع سكان أستراليا الأصليين.
وإذا كنا لا نتوقع من القمة العربية التى ستعقد فى تونس، سوى بيان إنشائى يدين بأشد العبارات قرار الرئيس الأمريكى بخصوص الجولان، لأننا نصر على عدم استخدام أوراق ضغط كثيرة نملكها بالفعل، فإنه ليس أمام شعوبنا مع الأسف سوى سلاح الإيمان بعودة الحقوق والأوطان الضائعة، مهما طال الزمن.
لذلك أقول: لا تحبطكم سياستنا المتخبطة والمتهاونة، وتمسكوا بما تؤمنون به، لأنه ما سيتحقق فى يوم ما، علموا أبناءكم وأحفادكم أن فلسطين عربية من النهر إلى البحر، وأن الجولان سورية عربية، وأن قوتنا فى وحدتنا فى وجه إسرائيل أولًا.. قبل أى عدو آخر.