رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نزار.. شاعر ضد شيوخ القبيلة ومؤسسة الصحراء


ارتشفت من فناجين القهوة، حتى صار النوم قمة يقظتى.. أحرقت من السجائر، ما أشبع حنينى إلى الرماد.. مزقت من الصفحات ما يكفى بناء بيت من الورق.. ولم أهتد إلى «القطفة» الأولى من كلماتى، فى ذكرى ميلاده الستة والتسعين.
كان لا بد لى من رحلة، طويلة، مضنية، على كل مرافئ اللغة، وموانيها. لم يكن هناك، مفر، من غربتى الحادة فى الكلام، وأنا أكتب، عن رجل، وطنه الكلمات.
أحاول أن أكتب، عن «نزار»، فى ذكرى ميلاده.
لكن كيف؟ هل تستطيع الأبجدية أن تتهجأ حروفها؟ هل يمكن للكتابة أن تكتب نفسها؟!.
«نزار»، ليس رجلًا، حاول بالكتابة، أن يصنع وجوده النادر المتفرد. بل كان هو، «الكتابة»، فى ذروة تأنقها، وعصيانها، وافتضاح أسرارها. كان «الكلمة»، السلسة، العميقة، مثل جذور الشجر.. الموحية بالتمرد.. المشعة بالحكمة.. النازفة عشقًا.. النابضة بالغضب الثائر.. وأشجان الغناء. هو «الكلمة»، المنطلقة ضد احتلال الوطن وضد استعمار النساء. «نزار»، ليس شاعرًا، أو واحدًا من الشعراء. لكنه الشعر نفسه، حينما يبقى متجددًا، ومتوهجًا، وساحرًا.
من المحال أن تهل علينا ذكرى ميلاد «نزار»، وفى مرحلة تثور فيها الشعوب العربية، دون أن نتذكر قصائده الثورية، عن الحرية، والثورة ضد الحكام، والتمرد على شيوخ القبائل الذكورية. صعب جدًا، وليس من الوفاء أن ننسى «نزار» اليوم، وهو الدمشقى، الأصيل، فى وقت، لا تعرف فيه دمشق مصيرها.
وكان «المنفى»، لنزار، والإقامة الجبرية، خارج وطنه، ومصادرة قصائده «المغضوب عليها»، وإدانته بأبشع الاتهامات، تزيد من صلابته. المزيد من الاتهام، كان يجدد السفر إلى فنادق الغربة، فترتفع قامته الشعرية.
كان «نزار»، يؤمن بأن الإنسان الحقيقى الأصيل، غير قابل للتجزئة. فـالعاشق العظيم، وحده، هو المؤهل لأن يكون وطنيًا عظيمًا.. وثائرًا عظيمًا.
إن الوطنية، والعشق، والثورة، عند «نزار»، هى موقف من الحياة، بكل تفاصيلها اللانهائية، المرتبطة ببعضها البعض. لكن الغالبية يعجزون عن رؤية هذا الارتباط.
بـمعنى أن مَنْ، يؤلمه، عصفور مسجون فى قفص، يؤلمه بالدرجة نفسها، امرأة تعامل كالجوارى.. يؤلمه وطن أسير الاحتلال. كل أشكال، ودرجات الاحتلال خارجيًا، وداخليًا، تخدم بعضها البعض.
كتب «نزار»: «صورة الوطن عندى تتألف كالبناء السيمفونى من ملايين الأشياء.. ابتداء من حبة المطر، إلى مكاتيب الحب، إلى رائحة الكتب.. إلى طيارات الورق.. إلى حوار الصراصير الليلية.. إلى المشط المسافر فى شَعر حبيبتى....».
وكان لا بد أن يتعرض «نزار»، إلى مزايدات باسم الوطن.. وباسم الفضيلة وباسم الدين، من الذين يعانون قصر النظر الوطنى.. وكهنة الوطنية.. وفقهاء تحرير الوطن.
تساءل محتكرو «التحرر الوطنى»، كيف للشاعر، الذى لا هم له، إلا امتداح عيون النساء، أن يهجو الخزى العربى؟ ماله ومال السياسة، والوطن والثورة،
وهو الشاعر، الذى تفوح من قصائده، رائحة النبيذ، واشتهاء النهود.. ويطربه رنين الخواتم والأساور؟!!
كتب «نزار»:
لا أنتِ من صنف.. العبيد ولا أنا أهتم فى بيع العبيد
إنى أحبك جدولًا وحمامة.. وبنوءة تأتى من الزمن البعيد
وأنا أحبك فى احتجاج الغاضبين.. وفرحة الأحرار فى كسر الحديد
وكتب أيضا.. «لا تقلقى علىّ يا صديقتى.. فـكل ما اقترفته
أنى منعت البدو أن يعتبروا النساء كالوليمة.. وكل ما ارتكتبه
أنى رفضت القمع.. والإيدز السياسى
والفكر المباحثى.. والأنظمة الدميمة».
وقال نزار: «تتظاهر – حين أحبك – كل المدن العربية
تتظاهر ضد عصور القهر.. وضد عصور الثأر
وضد الأنظمة القبلية.. وأنا أتظاهر- حين أحبك – ضد القبح
وضد ملوك الملح.. وضد مؤسسة الصحراء
ولسوف أظل أحبك حتى يأتى زمن الماء».
هل هى صدفة أن يوم ميلاد «نزار» هو اليوم العالمى للشِعر، ٢١ مارس؟.
الإجابة، واحدة من أسرار الكون، التى لا أود كشفها، أو التساؤل عن مغزاها.
من بستان قصائدى
منْ قال لكم.. إننى أريد هذه الحياة؟
لماذا توقعتم أننى.. سأنتمى إلى عالمكم هذا؟
منْ قال لكم.. إننى أتقبل توالى الليل والنهار
وغدر الجسد الذى أحمله.. والعواصف الربيعية الممتلئة بالغبار؟
منْ قال لكم.. إن مزاجى وطباعى ودمى
يرضى بهذا العبث واللاجدوى والسراب.. وسأبتلع السم فى الطعام والشراب؟
المنتزعة من الحدائق.. هل تتأقلم فى الأرض الخراب؟
منْ قال لكم.. إن لى مكانًا هادئًا ساكنًا آمنًا
تحت الشمس الحارقة الصاخبة؟.. وبيتًا دافئًا برائحة القهوة والبخور والورود
يأوينى.. يعزلنى عن التفاهات والتقاليد والجحود؟.. منْ قال لكم
إن روحى تحتمل الظلم الذى تعبدون.. والقهر النائم فى فراشكم وله تسجدون؟
منْ قال لكم.. بقلبى متسع لذكريات تئن من الندم
وألم لا يكف عن الصهيل.. وحياة مهما تتجمل وتراوغ وتتخفى.. فهى عدم؟.