رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر والسعودية التاريخ والمستقبل



ضبط ملامح الشرق الأوسط وإعادة ترسيمه شهد محاولات عديدة على مر السنوات الأخيرة، بدءًا من حربى الخليج الأولى والثانية وما تلاهما من أحداث فى العراق ثم ما دمره قطار الربيع الأسود فى سوريا ومحاولات تقسيم الدولتين إلى ست دويلات، وكذا ما حدث فى اليمن ومحاولات استيلاء الحوثيين على الدولة، التى تعد امتدادًا لمحاولات إيران فى فرض وجودها فى العراق والشام عبر الحشد الشعبى فى العراق ثم تشكيل قوات شبيهة فى سوريا تقدر بمائة ألف مقاتل.. التمدد الإيرانى فى المنطقة العربية سواء كان تمددًا فكريًا أو عقائديًا أو سياسيًا أو عسكريًا كان لا بد من تحجيمه أو تعديل وضعه، والدور الأكبر فى هذه الحالة يقع على الدولتين الكبيرتين فى المنطقة العربية «مصر والسعودية» وهما الأكبر مساحة وسكانًا وإمكانيات وقوات، ولذا تأخذ العلاقات المصرية - السعودية دائمًا شكلًا مختلفًا عن أى علاقات أخرى فى المنطقة.
العلاقات بين الدولتين ليست وليدة العصر الحديث، فمنذ توجهت هاجر، أم إسماعيل، ثم ماريا القبطية، زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام، إلى أرض المملكة، وعادت بعد ذلك قبائل إلى مصر قادمة من المملكة أثناء سفر قوات الفتح الإسلامى منذ ذلك التاريخ، وهناك علاقات أسرية تربط عائلات كثيرة فى المملكة ومصر، واستمرت تلك العلاقات تأخذ شكل المد والجزر طوال التاريخ الحديث، ولكن دائمًا عندما تواجه المنطقة أو إحدى الدولتين قضية خطيرة دائمًا ما يبدأ الحل من الدولة الأخرى.. فعندما أسس الملك عبدالعزيز آل سعود المملكة العربية السعودية كانت مصر هى وجهته، وفيها التقى روزفلت وتشرشل وقادة العالم فى ذلك الوقت.. وظلت المملكة هى الوجهة الأكبر والأهم للمصريين، ليس فقط للعمرة والحج، بل للعمل والأوقات الدائمة.. وعبر التاريخ سيظل موقف الملك فيصل فى حرب أكتوبر هو الموقف الأكثر دعمًا وحسمًا من كل دول العالم، وكان موقفه أحد عوامل الحسم فى المعركة عندما قرر منع البترول عن الغرب.. موقف حاسم غيّر موازين المعركة، وما زال حديثه مع كيسنجر عندما تحدث معه عن أزمة البترول، فقال له إن رغبته كعربى مسلم أن يصلى فى القدس وهى محررة.. ولم يكن موقف الملك فيصل هو الوحيد فقط فى العصر الحديث، فقد أعقب ذلك موقف الملك عبدالله وتأييده المطلق لثورة ٣٠ يونيو ودعم موقف الشعب المصرى سياسيًا واقتصاديًا حتى تخطت مصر أزمة ما بعد حكم الإخوان، وكان موقفًا حاسمًا أيضًا فى مسيرة العلاقات المصرية - السعودية.
التعاون المصرى- السعودى ودورهما فى حفظ الأمن بالبحر الأحمر، وحرصت القيادة فى الدولتين على تحويل قواتهما المسلحة إلى أكبر قوتين عسكريتين فى المنطقة حاليًا، وإيمانًا من القيادة فى الدولتين بأهمية دور القوات المسلحة للبلدين، شهد التعاون العسكرى خمس مناورات مؤخرًا، بهدف تبادل الخبرات ورفع الكفاءة التدريبية والجاهزية القتالية واكتساب المهارات القتالية، ومنها مناورات فيصل «مناورات جوية مشتركة»، ومناورات مرجان «مناورات بحرية»، ومناورات تبوك «مناورات برية»، ومناورات الربط الأساسى، ثم مناورات درع الشمال. إن الوضع الحالى للقوات المسلحة فى البلدين يعنى وجود قوة عربية مهمة تحمى حدود بلادهما وتمد يد العون للأشقاء فى دول أخرى.
وعلى المستوى الاقتصادى، تضاعفت العلاقات المصرية - السعودية فى مجال الاقتصاد والتجارة عدة مرات خلال فترات الثمانينيات والتسعينيات والسنوات الأخيرة، وبلغت استثمارات السعودية فى مصر أكثر من ٧ مليارات دولار بنسبة ٣٠٪ من الاستثمارات العربية، وفى المقابل توجد استثمارات مصرية بالمملكة تصل إلى ١٫٢ مليار دولار، ومؤخرًا وقع الملك سلمان بن عبدالعزيز اتفاقيات بلغت قيمتها ٢٥ مليار دولار، وتم الاتفاق على إنشاء صندوق مصرى - سعودى للاستثمار بقيمة ١٦ مليار دولار، بهدف ضخ استثمارات سعودية فى مشروعات تنموية فى محافظات مصر، ومشروع الربط الكهربائى وتبادل الطاقة، ومشروع إقامة جسر عملاق يربط بين الدولتين عبر البحر الأحمر، بالإضافة إلى مشروعات جذب سياحى فى البحر الأحمر، ويضم برنامج تنمية سيناء ١٢ اتفاقية تمويل لمشروعات من الصندوق السعودى للتنمية، تشمل إنشاء جامعة الملك سلمان بمدينة الطور و٩ تجمعات سكنية بسيناء، ويبلغ عدد المستثمرين السعوديين فى مصر أكثر من ٨ آلاف مستثمر سعودى واستثماراتهم موزعة على نحو خمسة آلاف شركة مصرية.
العلاقات التاريخية ممتدة وتشهد فى السنوات الأخيرة تطورًا كبيرًا، وفى لقاء منذ أيام للسفير أسامة النقلى، السفير السعودى الجديد فى القاهرة، مع رؤساء تحرير الصحف المصرية، جاء تأكيده على أهمية دعم هذه العلاقات، منوهًا إلى أنه وُلد فى مصر ولم تنقطع علاقاته بها على مر حياته.
اللقاء شهد تساؤلات من رؤساء التحرير المصريين وردودًا من السفير السعودى، جاءت بلغة إعلامية مبطنة بخبرة ودبلوماسية، ويعود ذلك إلى كون السفير عمل نحو أربعين عامًا مع الراحل سعود الفيصل ثم الوزير الجبير مسئولًا عن الإعلام ومديرًا للمكتب الإعلامى فى واشنطن، وعندما يعود الدبلوماسى إلى عمله الأصلى مدعومًا بالخبرة الإعلامية، فإنه قادر على التواصل مع الإعلاميين بشكل جيد، وأيضًا ناقل جيد لنهضة تشهدها المملكة حاليًا، سواء على المستوى الاقتصادى أو الصناعى أو العسكرى، ولكنها نهضة تمتد إلى نهضة اجتماعية ونقلة حضارية مهمة، وأخيرًا تحقق حلم المرأة السعودية فى قيادة السيارة، وتم تعيين أول سفيرة سعودية فى الولايات المتحدة الامريكية، وبدأ ولى العهد مواجهة حاسمة مع فيروس التطرف الدينى الذى انتشر فى التعليم والمساجد، تبدأ المواجهة بعزل الآلاف من العناصر التى تنشر الفكر المتطرف وتنقية مناهج التعليم، مما علق به عبر سنوات طويلة كاد العقل السعودى أن يُختطف فيها عبر أئمة التطرف أو المعلمين المنتمين لهم.
المرحلة القادمة ستشهد تعاونًا أكبر لن تعود نتائجه فقط على الشعبين المصرى والسعودى، ولكنها ستمتد إلى مناطق أخرى، فهناك تغيير مهم فى العلاقات مع العراق، والحديث عن تطور فى العلاقات مع سوريا وتعامل مختلف مع ملفات أخرى.. ما يحدث فى المملكة ومصر من نهضة ومن تطور يستحق أن تتوقف عنده كثيرًا، وأن نعده مؤشرًا على أن ضبط المنطقة سيكون بأبنائها وليس عبر أى دخيل.