رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قوة مصر الناعمة «2»



فى كتابه: «قوة مصر الناعمة»، الذى قدَّمنا لقراءته فى المقال السابق، يطوف مؤلفه الأستاذ «محمود دوير» بتاريخنا الحديث والمعاصر، كاشفًا عن لآلئ الإبداع المصرى، فى شتّى المعارف والفنون، التى أهَّلت لحيازة هذا التأثير الأدبى والسياسى، الفكرى والمعنوى، الهائل، الذى أشعَّ بضيائه على الوسط المحيط: العربى والإفريقى والعالم ثالثى، خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، وأغلب عقود القرن العشرين.
لعل القارئ الواعى لهذه الحقبة المهمة من تاريخنا، ونحن نحتفل بمئوية الثورة الوطنيّة الكبرى، ثورة ١٩١٩، يدرك بوضوح تلازم ظرفين فاعلين فى استيلاد وإبراز هذه الطفرة الثقافية العظيمة التى أينعت خلال القرن الماضى، أولهما انتشار الوعى الوطنى، الذى جسَّدته مراحل النضال ضد الاحتلال البريطانى، عبر وحدة المجتمع كله بطبقاته الاجتماعية وطوائفه المختلفة فى الثورة ضد الاحتلال، وثانيهما مناخ الحريات الديمقراطية النسبية، الذى واكب الحياة السياسية بعد الثورة وفى ظل دستور ١٩٢٣، الذى مَثَّلَ خطوة كبيرة للأمام رغم مثالبه المعروفة.
وهكذا وجدت الزهور التى أينعت فى الأرض المصرية البراح الذى ساعد على تَفَتُّحها ونشر عبقها فى شتى الاتجاهات، فأصبح الفن العربى فى جوهره هو الفن المصرى: الغناء العربى رواده مصريون، والإبداع العربى السينمائى يتحدث باللهجة المصرية، والأدب، والشعر، والرواية، والنقد، والفن التشكيلى، والنحت، وقراءة القرآن، والتفسير، والفتوى، والرياضة، والفلسفة، والعلوم... إلخ طابعها مصرى. صحيح أن مواقع عربية أخرى كان لها دور فى هذه النهضة، لكن مركزها كان مصر، فى الأول والأخير.
لقد كان لدى الطبقات الاجتماعية الصاعدة ما تقدمه للمحيط الإنسانى: البرجوازية المصرية شبه الليبرالية فى النصف الأول من القرن الماضى، ورأسمالية الدولة والطبقات الشعبية فى النصف الثانى، وخاصة فى عهد الرئيس «عبد الناصر»، فلا قوة ناعمة بغير مشروع وطنى جامع، وواضح، سياسيًا واجتماعيًا. فى النصف الأول للقرن الماضى: التحرر من ربقة الاستعمار، والدستور، وفى النصف الثانى: استكمال مشروع التحرير، وبناء اقتصاد وطنى مُتحرر نسبيًا، وكانت «كاريزما» الزعيم «عبدالناصر» وإيمانه بدور مصر الطليعى، وقيادته موجة التحرر العربى والإفريقى، بل والعالمى عبر حركة عدم الانحياز، إحدى مقومات هذه القوة الناعمة المصرية التى بسطت رؤاها على الدوائر المحيطة بأثرها.
وهكذا: فمن عبده الحامولى، إلى سيد درويش، ومحمد عبدالوهاب، وزكريا أحمد، والقصبجى، والسنباطى، ومن أم كلثوم إلى عبدالحليم حافظ وفريد الأطرش، ومن أحمد شوقى وحافظ إبراهيم وخليل مطران، إلى بيرم التونسى وفؤاد حداد وصلاح جاهين، ومن محمود مختار إلى محمود سعيد وراغب عيّاد، ومن طه حسين وعبّاس العقاد وتوفيق الحكيم، إلى محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين، ويوسف وهبى ويوسف شاهين، ونجيب محفوظ، وعلى مصطفى مشرفة، والشيخ محمد عبده والشيخ محمد رفعت، وجمال حمدان، وغيرهم: مئات من الأسماء الذهبيّة العيار، فى كل مناحى الحياة ومجامع الإبداع والعطاء، فضلًا عن دور غير منكور لمؤسستى الأزهر والكنيسة.
ثم أتى حينٌ من الدهر أفقدت السياسات والانحيازات السياسية والاجتماعية مصر، فى عهد الرئيس «السادات»، بوصلتها الصحيحة، فاعتبرنا العرب أجلافًا، والأفارقة متخلفين، وصادقنا أعداءنا فصارت كل أوراق اللعبة فى يد أمريكا، والمُغتصب الصهيونى شريك السلام، واختلط الحابل بالنابل، والصالح بالطالح، وفقدنا أحد أهم أسلحتنا: قوة مصر الناعمة!.
واكتمل الفقد بسياسات اقتصادية متعثرة، وبنزوح مليونى إلى معاقل التطرف، وتردٍ غير مسبوق لنظام التعليم، وتراجُعٍ للثقافة ودورها.

«خارطة طريق» لاستعادة «قوة مصر الناعمة» هو ما يُطالب به الكتاب والمؤلف، وفق خطة واضحة واستراتيجية متكاملة، نجاحها مرهون بامتلاك مشروع شامل للنهضة الوطنية.. ومن هنا نبدأ!.