رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى ذكرى الأب بيشوى كامل شهيد الخدمة الواعية


رفض الأب الرائع بيشوى كامل أن يسافر للعلاج بالخارج لئلا يظن الناس أنه سافر من أموال الفقراء والمساكين
فى ٢١ مارس يحتفل أقباط مصر وجميع كنائس المهجر بالذكرى الأربعينية لانتقال الأب الرائع بيشوى كامل، الذى أعطى نموذجًا للخدمة الكهنوتية الحقيقية فى الأبوة المتفانية والفقر الاختيارى والبُعد عن المناصب والخدمة الصادقة فى الخفاء. وإذ تعاملت معه عن قرب، سواء بالإسكندرية أو بمدينة تورنتو- بكندا، يطيب لى أن أقدم بعضًا من ملامح حياته وخدمته.
فى ٦ ديسمبر ١٩٣١ وُلد سامى كامل إسحق بدمنهور من أبوين تقيين وكان ترتيبه الرابع بين إخوته السبعة. فى عام ١٩٤٧ التحق بكلية العلوم جامعة الإسكندرية. وفى عام ١٩٥١ حصل على بكالوريوس العلوم «كيمياء وجيولوجيا» وفى نفس العام التحق بكلية الآداب فحصل على ليسانس الفلسفة عام ١٩٥٤. شغل وظيفة مدرس للعلوم بمدرسة الرمل الثانوية للبنين بباكوس، وفى عام ١٩٥٣ التحق بالكلية الإكليريكية بالإسكندرية وحصل على بكالوريوس العلوم اللاهوتية عام ١٩٥٥، وفى عام ١٩٥٧ عُين مدرسًا مساعدًا بالمعهد العالى للتربية بالإسكندرية.
فى أثناء دراسته بكلية العلوم كان يحرص على الذهاب لكنيسة السيدة العذراء بمحرم بك للصلاة ثم يخرج مسرعًا إلى منزله، وفى إحدى المرات أمسكه د. راغب عبدالنور بقوة وطلب منه مساعدته فى الخدمة، فكانت هذه بداية اندماجه فى خدمة مدارس الأحد التى بدأها عام ١٩٤٨، وفى عام ١٩٥٦ أختير أمينًا عامًا لمدارس الأحد بالإسكندرية.
فى صباح الأربعاء ٢١٢١٩٥٩ انتدب البابا كيرلس السادس الأنبا بنيامين مطران كرسى المنوفية لسيامته كاهنًا على كنيسة مارجرجس بأسبورتنج وتمت السيامة بالكنيسة المرقسية بالإسكندرية. قضى فترة الأربعين يومًا- بعد سيامته- بدير السريان العامر بوادى النطرون، وهناك توطدت علاقته بالراهب أنطونيوس السريانى (فيما بعد البابا شنودة الثالث)، وفى تلك الفترة سجل مذكراته الشخصية بأحاسيس صادقة وفى مكاشفة صريحة مع نفسه، إذ ذكر صراحة أنه محتاج إلى أن يقدس ذاته من أجل الذى يخدمهم، وهذه المذكرات متداولة حاليًا بمكتبة الكنيسة. وعندما عاد إلى كنيسته وبدأ خدمته الروحية النقية كان الرب قد سبق وأعده إعدادًا شاملًا فميزه بقلب نقى مستقيم ملتهب بمحبة عارمة، مع وداعة وتواضع، وعينين تلمعان ببريق ملائكى جذاب، ووجه مبتسم، كما زوده الرب بإمكانيات روحية تتخطى اللون والجنس. كذلك تميزت خدمته النقية بالمنهج الأرثوذكسى عديم الغش، سواء فى التعليم أو التسبيح أو العبادة، فكان نموذجًا رائعًا للكاهن الشهيد المحب لكنيسته. وجه اهتمامًا شديدًا لرعاية الشباب وخاصة المغتربين من الطلبة والطالبات، كما اهتم بالخدمة والخدام فتلمذ جيلًا صار كثير منهم أساقفة وكهنة ورهبانا وراهبات. كان المرضى أكثر الناس تمتعًا بحنانه، فكان يقضى الليالى واقفًا بجانبهم يشجعهم على تحمل الآلام بفرح ورضى، كذلك الفقراء كان سخيًا إلى أقصى حد، يحرص على مشاعرهم بشدة ويحتضنهم بأبوة ويستر على احتياجاتهم. لم يسقط يومًا فى فخ محبة المال أو أى معاملات مالية. لم يحتفظ طوال خدمته- كما ذكر لى فى لقاء بيننا بمدينة تورنتو -بمفتاح الكنيسة فى جيبه أو أى مفاتيح أخرى لأن هذا ليس عمله.
ساعده الرب أن يبنى كنيسة مار جرجس بأسبورتنج دون أن يطلب مالًا من أحد، وفى نفس الوقت استطاع أن يبنى ست كنائس أخرى: مارجرجس بالحضرة (١٩٦٩) وفى فترة بناء هذه الكنيسة فكر بصدق أن يقيم فى «عشة» صفيح بمنطقة الحضرة ليشارك شعبه فى معيشتهم البسيطة، كنيسة الأنبا تكلاهيمانوت بالإبراهيمية (١٩٦٩)، الملاك ميخائيل بمصطفى كامل (١٩٧١) وكانت الكنيسة فى منطقة فقيرة جدًا فكان يصطحبنى فى وقت الظهيرة فى عامى (١٩٧٣-١٩٧٤) لتفقد الأسر المحتاجة بها وكان زياراته لهم قصيرة للصلاة معهم وتقديم المساعدات المالية، كنيسة البابا بطرس بسيدى بشر (١٩٧٢)، أنبا أنطونيوس وأنبا بيشوى باللبان (١٩٧٢)، السيدة العذراء والبابا كيرلس عمود الدين بكليوباترا (١٩٧٦). كان البابا كيرلس السادس معضدًا ومشجعًا له فى جميع خدماته الصادقة.
وفى ١١١١٩٦٩ انتدب البابا كيرلس السادس الأنبا مكسيموس مطران القليوبية لترقيته لدرجة التدبير (القمصية) ثم سافر إلى أمريكا فى ٧١١١٩٦٩ لتأسيس كنيسة مارمرقس بلوس أنجلوس ثم عاد فى ٢٧٩١٩٧٠، وفى ١٤١١٩٧٤ انتدبه البابا شنودة الثالث لتأسيس كنيسة ما رجرجس والأنبا شنودة رئيس المتوحدين بجرسى سيتى وظل يخدم بها حتى ٢٥٥١٩٧٤.
كان حارسًا يقظًا لأولاده محتضنًا إياهم داخل حظيرة الكنيسة بكل أمانة. وفى أبوة حانية أفتتح فى ١١١٩٧٦ بيتًا لليتامى وأبت عليه أبوته الرقيقة أن يدعوه ملجأ فأطلق عليه اسم «بيت مارجرجس لرعاية الطفولة والأمومة» واعتاد ليلة كل عيد بعد الكنيسة أن يذهب لهذا البيت ويأكل مع أولاده.
كان شجاعًا فى مواجهة الأخطاء الكنسية. ففى انتخابات أسقف الإسكندرية عام ١٩٧١ كان ينادى بأن يكون المرشح من بين الآباء الرهبان، وأصدر نبذة بعنوان «شعب الإسكندرية اليتيم» أى إن كان المرشح من بين الأساقفة فشعب الإسكندرية سيظل يتيمًا بلا أب، وذهب وتقابل مع الأسقف المرشح- الذى كان صديقه-وناقشه فى القوانين الكنسية. وسافر إلى لجنة الانتخابات بالقاهرة وحث الناخبين على انتخاب الراهب المُرشح. وفعلًا نجح الراهب فى القائمة الثلاثية. وبعد القرعة الهيكلية- التى كانت نزيهة جدًا- وقع الاختيار على الأسقف. ولأن القرعة كانت نزيهة عادت المياه إلى مجاريها بينه وبين الأسقف.
فى عام ١٩٧٧ كانت بداية رحلته مع المرض والألم، ورفض أن يسافر للعلاج بالخارج لئلا يظن الناس أنه سافر من أموال الفقراء والمساكين، وأصر على ألا يسافر إلا إن كان هناك قرار وزارى للعلاج بالخارج على نفقة الدولة. فى ذلك الوقت كان الأستاذ ألبرت برسوم سلامة، وزير الدولة لشئون الهجرة والمهاجرين، فساعده فى إصدار هذا القرار، وفور صدور القرار قام بإعلانه بالكنيسة حتى يعرف الجميع أن العلاج على نفقة الدولة. فسافر فى ١٠١١٩٧٧ إلى لندن للعلاج وعاد فى ١٩٣١٩٧٧ ثم سافر مرة أخرى فى ١٥١٠١٩٧٨ وعاد فى ١٥١١١٩٧٨، بينما الآن السفريات - على جميع المستويات- بلا رقيب من الضمير!! وفى صباح الأربعاء ٢١٣١٩٧٩ انطلقت نفسه بسلام، حيث أقيمت الصلوات الجنائزية فى ٢٢٣١٩٧٩ رأسها البابا شنودة بنفسه وعدد من الأساقفة وكبار رجال الدولة. كان كاهنًا شهيدًا بالحقيقة، لم نر مثله فى خدمته الأمينة.