رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يَومَ تعامَدَت الشَّمس على وَجه رَمسيس الثانى

جريدة الدستور

تجربة زواج فاشلة من رجل شَبِق بدَّلت حياتى، كان يريد إنجاب أكبر عدد من الأبناء لتأكيد فحولته، وكنت أبحث أنا عن العاطفة، ولو قُبلة أو حضن كبداية لمَا يريده، لكنه لم يكُن يملك الوقت للاهتمام بما أريد، وكان الزواج هو الشكل الذى قنّن من خلاله ملذَّاته وشبقه، إطار اجتماعى يجعل منه رجلًا يُشهَد له بالرجولة والقوة، ولو لم يبال برغبات زوجته أو متى يطلبها، فهو يدرك تَسَيُّده، وأن كل شىء لا بد أن يسير وفق هواه.
سألته يومًا: «وإذا قلت لأ؟».
- «سوف أغضب عليك، وإذا غضبتُ فستلعنك الملائكة، وإذا لعنتك الملائكة فسيكون مصيرُك الطرد من رحمة الله».
كيف لحياة أن تستقيم مع رجل يهدّدنى مشيرًا بأصبعه، وبيديه مفتاحًا الجنة والنار؟!
جرَت الحياة بيننا لشهور، بعدها عُدتُ إلى أمى باكية، فى حين أرسل إليها قائلًا: «ابنتك باردة، لا تصلح للزواج».
لا أدرى إن كنت اتخذت قرارًا متسرّعًا بعدم الزواج مرة أخرى، أم كنت من الذكاء بحيث أدرك مبكّرًا أن المشكلة فى المنظومة ككلّ! وكلما شاهدت زوجين «تَحَّسرت» على عَلاقتهما، متخيلة أنه فى أحسن الظروف أحدهما فقط هو التعيس، أما الآخَر فيعيش من أجل تربية الأولاد.
فأصبحت الحرية هدفَ حياةٍ وغرامًا أعيش وأعمل من أجله.
بعد فترة وجيزة انتقلت للعيش بمفردى، بعدما وجدت شقة صغيرة فى حى الزمالك.
تعليمى الجيد أتاح لى وظيفة براتب معقول، والفراغ الذى كنت أعيشه ساعدنى على أن ألتحق بعدد من الدورات المجانية فى عديد من السفارات الأجنبية، حتى أصبحت وجهًا مألوفًا لكثير من الأجانب العاملين فيها، ولعدد من المثقَّفين المصريين، ونسيت تمامًا فكرة الزواج.
.. حتى ارتبطت بدومينيك، شاب فرنسى جاء إلى مصر لرؤية تَعامُد الشمس على رأس رمسيس الثانى، وبعدها قرر الاستقرار فيها، وكتب لى القدر أن أقابله فى شُبَّاك تذاكر القطار إلى أسوان بمحطة مصر.
آه! نسيت أن أعرّفكم نفسى. اسمى إلهام، وسنّى خمسة وثلاثون عامًا، كنت أمامه عند شباك التذاكر، وسألت الموظف المسئول عن الوسيلة التى أذهب بها إلى معبد أبوسمبل، رغم أنى أجريت بحثًا على الإنترنت، لكن كنت أريد أن أتأكَّد من صحة معلوماتى.
لم يكُن دومينيك يعرف من العربية إلّا قليلًا، لكنه عرف وجهتى من كثرة ترديدى اسمَى أبوسمبل ورمسيس الثانى، كما قال لى لاحقًا. أنهيت حديثى مع موظف الحجز، وتركت له الشباك. وقفت فى الجوار أُشعل سيجارة، وتَلقَّفَتنى نظرات الازدراء من بعض المارة، ممن يظهر عليهم أثر التديُّن، حتى جاء هو، ابتسم لى بحذر وأخذ يلوّح بيده لى كأنه أصَمّ، وإشاراته وضّحت أنه يريد سيجارة.
ابتسمتُ وأخرجت سيجارة وأشعلتها وأعطيتها له، شكرنى بذات الطريقة، وبلسان فرنسى قال لى: «ميرسى».
أجبته بابتسامة: «ميرسى بوكو».
سألنى بلغته: «أتتحدثين الفرنسية؟».
أجبته أنا هذه المرة مستخدمة يدى للإشارة بـ«لا»، أخبرته فى أثناء تدخينه السيجارة أنه كان لدى صديق فرنسى، تعرفت إليه فى أثناء حضورى إحدى الدورات التعليمية فى السفارة الفرنسية، فتعلمت منه بعض الكلمات التى لم يتبقَّ منها فى ذاكرتى سوى عدد قليل، مثل: معزة، كلب، نعم أنا مريضة، أنا بنت، أنت ولد...
وضحكت، وضحك هو الآخر.
أخذ بكلمات عربية مهترئة، وإنجليزية مهلهلة، وفرنسية جذَّابة، مستعينًا مرة بيديه وأخرى بعينيه ثم بحركاته، يحدّثنى، وأنا مبهورة ومستمتعة بحديثه.
ركبنا القطار معًا، رويت له كيف تورطتُ فى هذه الرحلة، وإلا كان من المستحيل أن أقوم بها من تلقاء نفسى.
أما هو فقال لى إنه يخطط لها سنويًّا، وعندما سألته لماذا، انفجر ضحكًا، مؤكّدًا لى أنه مهما كان مشغولًا فلا يستطيع أن يفوّتها، فهى معجزة هندسية لا تحدث إلّا فى معبد أبوسمبل.
ضحكت من سذاجته، وتَندَّر هو على جهلى.
أصرّ على أن يدعونى إلى هذه الرحلة، اعتذرتُ إليه، معلّلة بأنى مدعوّة من أصدقاء ينتظروننى هناك، وقتها عرض علىّ أن ينضمّ إلينا، فوافقت.
أخبرنى عن إحساسه عندما وقعت عيناه علىّ، كأنى من نساء الحواديت اللاتى قرأ عنهن فى قصص ألف ليلة وليلة، أو إحدى ملكات مصر القديمة التى هربت من زمانها وأتت من أجله، أمَّا أنا فقصصت عليه قصة زواجى، وأن أهمّ ما يميزه أنه لا يتشابه مع شخصية زوجى التعسة، ولا مع من قابلتهم، ولم يحاول أىٌّ منهم أن يرى روحى كما رآها هو.
أما أنا- خلال نصف اليوم الذى هو عمر رحلة القطار من القاهرة إلى أسوان- فرأيت فيه الرجل الذى تمنيته، مثقَّفًا، مُحبًّا للحياة، مهتمًّا بشريكته، يتعامل مع حُرّيتى كما لو أنها سبب فى ارتباطه بى وحبه لى، طريقته الخاصة والسهلة فى العبور إلى مشاعرى، وتَصرفاته تسير جنبًا إلى جنب مع إحساسه بى، دون تناقض غير معلومة أسبابه، إنسان يتعامل بفطرة لم تشوّهَّا أمراض أو عقد نفسية.
وفى الطريق إلى أسوان اتضحت الخطوط العريضة لعلاقتنا، ماذا يحب كل طرف، وما الذى لا يطيقه، اختلافنا فى أشياء واتفاقنا على مبدأ الحرية والاحترام الذى يجب أن يحيط أى علاقة.
استمر الضحك والحديث المتواصل فى كل شىء، عدد من اللغات واللهجات مع إشارات من هنا وهناك لتوصيل المعلومة.
تَعرَّفتُ أيضًا على تفاصيل حياته فى القاهرة، عندما جاء زائرًا منذ ستة أشهر ولم يتركها، يعمل فى إحدى الجمعيات الحقوقية، وله أصدقاء أجانب وقلَّة قليلة من المصريين، وحكيت له عن طبيعة عملى وكيف أنى أزاول أكثر من وظيفة، الأساسية فى الصباح، والثانية فى الفترة المسائية حتى العاشرة مساءً.
لا نعرف كيف مضى الزمن بتلك الخفَّة سريعًا لنصل إلى أسوان، حملنا حقائبنا متوجّهَين إلى الفندق الذى حجز لى الأصدقاء فيه، وكانوا فى انتظارنا. استقبلونى ودومينيك بضجة الترحاب، واتفقوا على أن يتركونا ساعتين نرتاح قليلًا، وقرب الفجر نستيقظ ثم نتوجه إلى المعبد قبل الرابعة صباحًا.
كانت كل الترتيبات تسير بدقَّة غير معتادة، ربما لأن الحدث فرض ذلك، كونه يعتمد على عقرب الدقائق.
تَوجَّهنا فى الظلام إلى طريق أبوسمبل، وكانت تسير معنا مجموعات صغيرة من الأجانب، وبعض المترجمين، وقليل من المصريين وأبناء أسوان، نحو ثلث الساعة نسير بهوادة لا تخلو من الحماسة، وأمامنا متَّسَع من الوقت قبل ظهور النور، حتى توقفنا مباشرة أمام المعبد. أحاديث جانبية، وكل فرد هنا يطمئنّ على أن كاميرته تعمل، سواء الفوتوغرافية أو الفيديو، وكان النور قد بدأ فى السطوع، والأعيُن معلَّقة بين لحظة وأخرى فى السماء، ومرشد هنا ومرشد هناك يشرح فى الوقت المتبقى لسطوع الشمس.
.. بينما دومينيك من آنٍ إلى آخَر، يمسك يدى بقوة، أو يقترب بابتسامة تؤكّد وجوده معى، وفى يده الأخرى كاميرا فيديو يحاول إمساك هذه اللحظات الجميلة، وفى جيبه دفتر من الورق الأبيض الصغير وقلم يدوّن شيئًا ما، ثم يضعه من جديد فى جيبه ويعود ليمسك بالكاميرا، ظلّ هكذا يبدّل بين الكاميرا والأوراق فى محاولة منه للإمساك باللحظة من جوانبها كافة، ثم يقترب ليسألنى عن شعورى.
صمت مَهيب لفَّنا جميعًا مع اقتراب شروق الشمس، نوع جديد من الصلاة، ونُسُك لم أعتَده، ربما جعلنى هذا الحدث أفهم سبب عبادة قدماء المصريين للشمس، وتقديسهم لها، من ملكوت الهيبة، والإيذان بولادة معجزة جديدة كل يوم، وبرهبة غير معهودة، كنا ننتظرها، وما بين الظلمة الشديدة حتى بداية النور كنا ننتظر مجهولًا واثقين من حضوره، مع تسارع دقَّات قلبى انتظارًا لسطوع كامل للشمس، لَفَتَنى الجمهورُ الذى أتى، وكيف أن ملامحهم تفيض بالشغف، وقلوبهم معلَّقة بالمكان، الأصوات من حولى هامسة، تخاف خدش الحدث، حتى بدأت خطوط الشمس فى الشروق، وبدأت أصوات الحضور فى الارتفاع بانبهار: «وااااو!»، تكررت عشرات المرات، حتى فرض الصمت وجوده وقتما سقطت الشمس بأشعتها الحمراء القانية على رأس رمسيس الثانى، كأنها تضع على جبينه قُبلة الصباح، ونحن من بعيد نتأمل بدهشة وتحيُر، كأنّ على رؤوسنا الطير كما يقولون. دقائق وتحركت الشمس نحو التمثال الثانى يمين رمسيس الثانى، ثم ببطء قليلًا نحو التمثال على اليسار، بينما ظلت خلال العشرين دقيقة مُدّة تعامدها لم يترك نورها وجه رمسيس الثانى، حتى تركت المعبد متوجّهةً إلى دورانها اليومى والمعتاد كمثل أى يوم كان.
لا أعرف السبب الذى جعلنى أنظر إلى دومينيك فى هذه اللحظة وأطلب منه أن يضمّنى إليه! لم تُسعفنى لغتى الفرنسية، واكتفيت بإشارة منى.. ضمَمتُ يدَىّ واحتضنت نفسى، فاقترب منى وضمَّنى، كأنه لم يكُن يحتاج منّى إلى وصف، وكانت أشعة الشمس تملأ الأركان، وتراءى لى لون عينيه الأزرق الصافى، ووجدتُنى أرتمى بين ذراعيه، كأنى أضع بينهما كل عمرى، وبداية جديدة لحياتى معه، المعجزة التى أبدأ بها الحياة معه.
استمرّت علاقتنا لأكثر من عامين، امتلأ وقته وحياته بعديد من الأنشطة التى كنا غالبًا نمارسها معًا، كان مُغرَمًا بمنطقة وسط البلد مع المثقَّفين وفنانى الدرجة الثانية، وتنوعت سهراتنا ما بين كافتيريا الأكسلسيور، ومطعم وبار إستوريل الذى كان يجد راحته فيه كثيرًا، وحكى لى عن ارتباطه بالمكان، لأنه قرأ يومًا أن الممثّل روبرت تايلور زاره فى أثناء تصويره فيلم «أبوالهول الزجاجى»، ووضع إمضاءه على المينيو الخاصّ بالمطعم، كحدث يستحقّ الانتباه.
أصبح يُجيد اللهجة المصرية ويُلقى المُزَح، ويميّز أفضل عربات بيع الفول ومحَلات الشراب الفرنسى المعتَّق، وأصبح حضورنا تعامُدَ الشمس على رأس رمسيس الثانى طقسًا سنويًّا، يُعيد لحياتنا ألق وإمكانية تحقيق المعجزات.