رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جمعة نيوزيلندا الأسود


ضحايا هجوم مسجدى نيوزيلندا، ارتقوا ونحتسبهم شهداء عند خالقهم، ولا نملك غير الدعاء للمصابين بالشفاء، وطبيعى أن يدين الحادث الإرهابى أى إنسان سَوىّ، لم يتسمم عقله أو ينحرف سلوكه. لكن الأهم من استنكار تلك الجريمة البشعة، وإدانة مرتكبها، أو مرتكبيها، هو طرح السؤال البديهى عن ضمانات أو احتمالات عدم تكرارها.
تفاصيل الدقائق السبع عشرة التى هاجم خلالها الإرهابى «مسجد النور» فى شارع «دينيز» بمدينة «كرايستشيرش»، بدأت بدخوله إلى بوابة المسجد الخارجية وهو يحمل سلاحًا آليًا، يطلق منه الرصاص، دون أى مقاومة، حتى دخل المسجد. وبعد إطلاق الرصاص لثلاث دقائق متواصلة، خرج لإعادة تعبئة أو تلقيم سلاحه بالذخيرة من سيارته خارج المسجد، قبل أن يعود للمسجد ثانية ويواصل إطلاق النار. وعليه، لا نجد أى مبالغة فى اتفاق غالبية وسائل الإعلام النيوزيلندية على أن الاعتداء الإرهابى، هو الأكثر قسوة فى تاريخ البلاد، وأنه أحدث صدمة لدى كل السكان البالغ عددهم نحو ٥ ملايين، حتى لو افترضنا وجود استثناءات، فهى قطعًا ممّن تسممت عقولهم ومنحرفى السلوك.
الإرهابى، الذى أعلن مسئوليته عن إطلاق النار، يؤمن بتفوق العرق الأبيض. اسمه برينتون تارانت، عمره ٢٨ سنة، مولود فى أستراليا لأبوين بريطانيين. من المعادين للمهاجرين، المسلمين تحديدًا، ووصفهم فى حسابه على «تويتر»، بـ«الغزاة المسلمين» الذين يحتلون الأراضى الأوروبية. وكتب ممهّدًا لجريمته أو مبررًا لها: «قررت أن أفعل شيئًا لضمان مستقبل شعبى»، بعد أن وصف نفسه بأنه «رجل أبيض عادى ينتمى لأسرة أسترالية من الطبقة العاملة ذات الدخل المتدنى. والدى من أصول أسكتلندية أيرلندية وإنجليزية... إلخ». وتوقّع أن الصدمة التى ستتبع الشىء الذى سيفعله «سيكون لها تداعياتها فى السنوات المقبلة، على الخطاب السياسى والاجتماعى، وستخلق جوًا من الخوف والتغيير، وهو المطلوب».
ربما لهذا السبب، أو تحت تأثير هذا الوهم، قام بتصوير مقطع فيديو، قبل دقائق من ارتكاب الجريمة، يظهر فيه سلاحه وذخيرته بجواره فى المقعد الأمامى للسيارة، بالإضافة إلى علب بنزين. كما قام بعمل بث مباشر للجريمة فى حسابه الشخصى على «فيسبوك». واللافت، هو أنه بالإضافة إلى تغريدات تهاجم المسلمين وتحذر من زيادة معدلات الولادات لديهم، كانت هناك تغريدات أخرى تحذر من «إبادة جماعية للبيض». وصور لمخازن ذخيرة، منقوش عليها أسماء، بينها اثنان من القتلة الذين استهدفوا مهاجرين مسلمين. وحسبما ذكرت جريدة الـ«صن» البريطانية، فقد نشر المذكور بيانًا يتضمن نواياه ومعتقداته فى حوالى ١٦ ألف كلمة.
ما أسهل الحديث عن «تقصير أمنى»، وما أسهل اتهام أجهزة ومؤسسات الدولة بالتواطؤ، استنادًا إلى أن نيات الإرهابى كانت معلنة، ولم يكن صعبًا منعه من ارتكاب جريمته. لكن الشك فى ذكائك واجب، إن وجّهت سهامك إلى المتضرر، وتعاميت عن المستفيد، الذى سيكون على الأرجح هو من استأجر أو تلاعب فى عقل ذلك الذى قال إنه جاء إلى نيوزيلندا للتخطيط والتدريب على الهجوم. زاعمًا أنه ليس عضوًا فى أى منظمة، أو جماعة قومية، من تلك التى كان يتبرع لها ويتفاعل معها، وأنه تصرف بمفرده وليس تنفيذًا لأوامر أى منظمة أو جماعة. وحتى لو افترضنا صحة ذلك، فإن المستفيد سواء كان تنظيمًا أو دولة، تلاعب بعقله وتركه يفعل بإرادته المستلبة، ما يفعله غيره تنفيذًا للأوامر. وفى الحالتين، النتيجة واحدة.
فى الحالتين، أيضًا، يمكنك استنتاج أن الإرهابيين، فى جوهرهم وأصلهم، بمعتقداتهم وقناعاتهم، لهم دين واحد وينتمون لكيان واحد، أو أمة واحدة، مهما اختلفت التسميات والمسميات. والشك فى ذكائك، واجب أيضًا، لو اعتقدت أن الإرهابيين يحركهم فقط «المعتقد»، ولا تحركهم أيضًا أجهزة مخابرات دول.. وكذا يمكن الشك فى ذكائك ومعلوماتك، إن اعتقدت أن ذلك «المعتقد» يجعلهم يفرّقون أو يميزون بين المسلم والمسيحى أو حتى البوذى، لأن الجميع، فى نظرهم ووفق معتقدهم وقناعتهم، أغيار أو «كفار». ولن يرضوا عن هذا أو ذلك، حتى يتبع أحد تنظيماتهم أو جماعاتهم أو يكون مركوبًا (ذهنيًا) منهم، وظهيرًا سياسيًا لإرهابهم.
جمعة نيوزيلندا الأسود، الجمعة، ١٥ مارس ٢٠١٩، لا يختلف عن الجمعة، ٢٤ نوفمبر ٢٠١٧. ومذبحة مسجدى «كرايستشيرش»، لا تقل بشاعتها عن تلك التى حدثت فى مسجد الروضة، بشمال سيناء. والشهداء الـ٤٩ هناك، والـ٣٠٠ هنا قتلهم الإرهاب، عدو البشر الأول، على اختلاف جنسياتهم وأعراقهم ودياناتهم. وهو القاتل نفسه، الذى قام منذ ثورة ٣٠ يونيو، ولا يزال، بمئات العمليات الإرهابية، قتل خلالها مئات المصريين، مسلمين ومسيحيين، وقام بحرق وتخريب وتدمير عشرات الكنائس والمساجد فى طول مصر وعرضها.