رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبدالوهاب داود يكتب: «جفنه».. 6 دقائق فى محبة العيون وفتنة القُبل


لوقت طويل، لم تكن علاقتى بموسيقى محمد عبدالوهاب بحالة جيدة. لم يكن ذلك بسبب ما تناثر حوله من اتهامات بالسرقة، والسطو على جمل موسيقية غربية وتضمينها فى ألحانه، فقد رد عليها جميعًا فى حينها، وأسكت الأصوات التى تناولت الأمر فى حوار تليفزيونى مع الإعلامى طارق حبيب، ثم لم يلتفت إليهم فيما بعد، وعندما رحل الجميع، ظلت موسيقاه باقتباساتها، وجمالها، وفتنتها الآسرة.
وقتها كنت أظن أنها موسيقى بلا روح، لا تهتم بغير الإيقاع، والزخارف الموسيقية، وكنت، وما زلت، من مريدى مدرسة بليغ حمدى التعبيرية فى الغناء، لكن أمرًا ما قد حدث، فغيّر من علاقتى بهذا الموسيقار الفذ، وفتح عينى على جمال ما بعده جمال، وكانت هى الأغنية التى عرفت فيما بعد أنها أشعلت جنونه الموسيقى، وغيّرت مسار أول أفلامه «الوردة البيضاء»، فلحنها فى ساعات معدودة عام ١٩٣٣، ليضعها بين أغانى الفيلم، وقيل إن كلماتها وصلته فى رسالة من بشارة الخورى، المعروف بالأخطل الصغير، بعد أن انتهى من تسجيل جميع الأغانى فى برلين، وبعد أن غادر معظم العازفين وعادوا إلى مصر، فلم يتردد فى حمل إحدى الآلات الموسيقية وتسجيلها بنفسه، ويقال إن عبدالوهاب عندما سئل يومًا كيف لحنها فى ساعات معدودة بهذه الروعة قال: «لم أقم بأى مجهود يُذكر، لأن القصيدة جاءتنى منه ملحنة جاهزة»، والحقيقة أنها لم تكن مقررة ضمن أغانى الفيلم، ولكنه عندما تسلم رسالة بشارة الخورى، قرر إضافة «جفنه» إلى أغانى الفيلم، فلحنها فى بضع ساعات على إيقاع «الرومبا» الأمريكى، ومقام العجم، على غير المعتاد فى معظم القصائد التى لحنها، والتى كان يفضل أن تأتى على مقام «البياتى» مبررًا ذلك بقوله: «إن التلاوات القرآنية تبدأ عادة بالبياتى، لأنه المقام المفضل لدى قراء القرآن، ولدى عموم المصريين.»
ومن الحكايات التى يرويها مقربون من عبدالوهاب أن هذه الأغنية تم تلحينها وتسجيلها فى يوم واحد فى برلين، وبعدها حمل عبدالوهاب الأسطوانة وسافر إلى باريس، حيث كان المخرج محمد كريم يجرى مونتاج «الوردة البيضاء»، ولم يكن ممكنًا إضافة أى مشاهد جديدة على الفيلم، ولكنه أمام إصرار عبدالوهاب على الأغنية، اضطر إلى تصويرها فى إحدى الحدائق الباريسية، وضمها إلى الأحداث، لتبقى لنا «جفنه علم الغزل»، التحفة التى تشيع من حولها مجالًا من البهجة الخالصة والطرب، فتتوارثها الأجيال، وتتناقلها الأصوات.
اللافت أن كل صوت جديد تصدى لهذه الأغنية، كان يكشف لى ملمحًا من مكامن فتنتها، وجمالها، لأكتشف بعد سنوات من الطرب بها، أنها ليست مجرد مقطوعة موسيقية مغناة، بل ست دقائق كاملة فى حضرة الجمال، وفى محبة الجفون وجاذبيتها، فى التغزل بفتنة العيون وطاعة الحُسنِ إن أمر، وفى النشوة بخمر القُبلة الراضية.. ست دقائق كاملة، هى عمر تلك الأغنية التى فتحت لى عالم عبدالوهاب الموسيقى، وروعته، وأدخلتنى إلى ساحة الفتنة بالموسيقار المولع بالتجديد، لا يوقفه حد، ولا تحده حدود.
عندما سمعتها للمرة الأولى بصوت على الحجار، كنت مفتونًا بالمقطع الختامى منها، والذى تقول كلماته «يا حبيبى.. أكلما ضمنا للهوى مكان، أشعلوا النار حولنا؟».. هنا يتحرك الحجار فى المساحة الشرقية التى حررها عبدالوهاب لنفسه من زخم إيقاع الرومبا الغربى المستورد، والجمل الموسيقية القصيرة الراقصة، فتظهر مساحات صوته الواسعة، ليصول ويجول وحده فى ملكوت النداء «يا حبيبى»، خصوصًا أداة النداء «يا» التى لعب بها عبدالوهاب ولعب معها، فأشعلت صوت الحجار، وتلاعبت به، حتى إننى لا أظن أن على الحجار تمكن من العثور على مثل هذه المساحة للتجول بين المقامات بمثل هذه الخفة، والحرية المطلقة.
وعندما سمعتها بصوت صابر الرباعى، اكتشفت أن هناك الأجمل، هناك «هاتها من يد الرضا، جرعة تبعث الجنون، كيف يشكو من الظما من له هذه العيون؟»، هنا كم لا حدود له من الغزل المحبب الذى ينساب على حنجرة الرباعى الصافية، ينتهى بتساؤل حاسم، بإجابة واحدة وحيدة، لا تملك معها إلا أن تنساب مع روعة الإيقاع الغربى الراقص، وهو يسير متخفيًا كإطار لكلمات مكتوبة بالفصحى صعبة المراس.
وأخيرًا غنتها آمال ماهر، فكان لى أن أذوب مع روعة الجمع بين الشرق والغرب، مدعومًا بتوزيع موسيقى فاتن، خصوصًا فى المقطع الذى تقول كلماته «قل لمن لام فى الهوى، هكذا الحسن قد أمر»، هنا عرفت أنها ليست مجرد أغنية تتداولها الأصوات، ففى كل مرة تأتى وكأنها أغنية مختلفة تمامًا، وجديدة تمامًا، وحديثة تمامًا.
وهنا كان لى أن أقدم على المغامرة التى ترددت أمامها كثيرًا، وكان أن قررت أن أستمع إلى الأصل، إلى عبدالوهاب نفسه، لأراه وهو يبرز مزاجيته الشرقية، ويعطى لنفسه المجال فى منتصف الأبيات العشرة المكونة للقصيدة، لكى يغنى موالًا شعبيًا لطالما تاق إليه، وطارده، فيمهد له بداية من مقطع «يا حبيبى» بفاصل موسيقى شرقى عذب، لينطلق بعدها مداعبًا الجميع. وهنا كان لى أن أراه هو يمسح كل هؤلاء الذين جاءوا بعده «بأستيكة قاسية».