رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نذر اللهيب التركى فى شرق المتوسط


أردوغان أعلن أن تركيا ستواصل أنشطة التنقيب عن النفط والغاز فى شرق المتوسط رغم رفض «الروم ونواب حزب الشعب الجمهورى»
يجرى الجيش التركى أكبر مناورات بحرية أطلق عليها «مافى فاتان»، وهما كلمتان بالتركية تعنى «الوطن الأزرق»، يشارك فيها أكبر عدد من وحدات البحرية العسكرية التركية تنخرط فى تدريب موسع من هذا النوع. يعد هذا التدريب الأضخم، بالنظر إلى إجرائه فى ثلاثة بحار محيطة بالدولة التركية، البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجة والبحر الأسود، فضلًا عن مشاركة ما يزيد على (١٠٠ قطعة بحرية) مختلفة الطرازات فى تلك المناورة.
الرسالة الداخلية لهذه المناورة، تترجم رغبة نظام أردوغان فى إظهار أنه ما زال يتمتع بقوة بحرية قوية، رغم حملات التطهير الواسعة التى شملت قيادات هذا السلاح، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة ضده عام ٢٠١٦، ولذلك سعى النظام إلى بث الروح مجددًا فى هذه الوحدات العسكرية، حيث ظلت لسنوات ترى أن مراهنة النظام على قواته البرية والاستخبارية، تأتى خصمًا من الاهتمام بها على مستوى التحديث والدعم، على خلفية الانخراط العميق للدولة فى العمل البرى على الأراضى السورية والعراقية وفى مواجهة الأكراد. الرسالة الثانية للداخل التركى، تتمثل فى ترويج صورة الجيش الذى «يسعى» لمصالح الشعب الاقتصادية، بعد أن شعر النظام بأن لعاب الأتراك يسيل بشدة، داخل أزمته الاقتصادية الخانقة، وهو يتابع أخبار اكتشافات الغاز الطبيعى، التى تدور جميعها على مسافة أمتار من حدوده البحرية، دون أن يجد ما يمكن الاستفادة منه من تلك الطفرات المتوقعة، التى فضلًا عن ذلك هى تصب فى صالح أعداء ومنافسين تاريخيين لتركيا.
هذا دفع أردوغان قبيل انطلاق تلك المناورة وأثناء التحضير لها، لأن يعلن أن تركيا ستواصل أنشطة التنقيب عن النفط والغاز فى شرق المتوسط، رغم رفض «الروم، ونواب حزب الشعب الجمهورى»، فى إشارة منه إلى اليونان، وإلى أكبر الأحزاب المعارضة فى بلاده. وبعيدًا عن كون هذه الألفاظ وهذا الخطاب شعبويًا لمغازلة الداخل، فإن أنقرة ترفض فعليًا تنقيب اليونان عن الغاز الطبيعى فى البحر المتوسط، وتعتبر ذلك يأتى على حساب القبارصة الأتراك. كما تعترض تركيا رسميًا على الاتفاقية التى وقعت عام ٢٠١٣ بين مصر وقبرص بدعم اليونان، لإعادة ترسيم الحدود البحرية واستغلال الموارد النفطية، بالمشاركات التى جرت مؤخرًا فى منتدى غاز شرق المتوسط وغيره. واستكمالًا لهذا الخطاب الشعبوى، الذى يدغدغ مشاعر جمهور أردوغان، أعلن الأخير فى تجمع انتخابى بمدينة «ريزا» التركية: «نحن عازمون على استغلال حقوق الغاز الطبيعى والنفط الخاصة بنا، فى شرق البحر المتوسط والبحر الأسود على أكمل وجه»، فى إشارة إلى أن بلاده تسلمت سفينة تنقيب جديدة أطلق عليها اسم «يافوز»، وستبدأ خلال هذا الشهر أعمال التنقيب عن النفط فى الحدود البحرية المتنازع عليها مع الدولة القبرصية، بعد انتهائها من أعمال الصيانة والفحص لتنضم إلى نظيرتها التركية محلية الصنع السفينة «فاتح»، التى بدأت فعليًا عملها منذ أكتوبر من العام ٢٠١٨.
تلك الأحداث تجرى بعدما أعلنت قبرص الخميس الماضى عن اكتشاف شركة الطاقة الأمريكية العملاقة «أكسون موبيل»، احتياطيًا ضخمًا ومؤكدًا للغاز الطبيعى يعد الأكبر فى المنطقة الاقتصادية الخالصة للجزيرة، وقدّرته المراكز الفنية الدولية بأنه يعد أحد أكبر الاكتشافات على مستوى العالم فى العشرين سنة الأخيرة. ووفق وزير الطاقة القبرصى جورج لاكوتريبيس؛ فإن التحليلات الأولية بينت أن الاحتياطى يحوى ما بين خمسة وثمانية تريليونات قدم مكعبة، أى يقدر (ما بين ١٤٠ و٢٣٠ مليار متر مكعب) من الغاز الطبيعى. تملك الشركة الأمريكية نسبة ٦٠٪ من (البلوك ١٠ القبرصى)، وهو محل هذا الاكتشاف الجديد، فيما تمتلك شركة «قطر للبترول» ٤٠٪ المتبقية، وذلك كحقوق قانونية معتمدة للكشف والتنقيب، حيث ستشاركان الدولة القبرصية فى النسب المعمول بها لتقاسم هذا الإنتاج الهائل.
يعتبر هذا البلوك واعدًا اقتصاديًا بشكل كبير، لكن خطة عمل الخطوات المقبلة تنتظر وضع اللمسات الأخيرة عليها، فى ظل تهديد أردوغان الصريح لشركات النفط الأجنبية من تجاوز «الخطوط الحمراء». وكان لاكتشاف مصر حقل «ظُهر» الضخم عام ٢٠١٥ المحاذى لـ(البلوك ١٠)، سببًا فى تعزيز التكهنات بأن المياه القبرصية يمكن أن تحوى احتياطات مشابهة، وهو ما دفع الدولتين إلى التفكير فى اتفاقيات نقل الغاز من «حقل أفروديت»، الواقع فى (البلوك ١٢)، الذى يقدر بأنه يحوى نحو (٤.٥ تريليون قدم مكعب) من الغاز، إلى مصر من خلال أنابيب تحت المياه، كما تأملان فى البدء بتصدير الغاز عبر هذا المشروع الطموح بحلول عام ٢٠٢٢.
حتى الآن تواصل تركيا اعتراضها على حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة المحيطة بقبرص، وهى على الأقل تطالب بأن يعود أى عائد من الغاز القبرصى بالفائدة على جميع السكان فى قبرص، فى إشارة إلى المقيمين فى الجزء الشمالى من الجزيرة والذى تحتله تركيا. كما أعلنت الحكومة القبرصية مرارًا بمسئوليتها عن معظم المواطنين، فإن لديها تحفظًا كبيرًا ومعلنًا أيضًا على العدد الكبير من المهاجرين الذين تم الدفع بهم منذ غزو القوات التركية للجزيرة فى عام ١٩٧٤. وهناك حول الكشف الجديد تعقيد من نوع آخر؛ فالشراكة القطرية لـ(البلوك ١٠) مع الشركة الأمريكية، قد يجعل الدوحة سياسيًا تصطف إلى جانب حليفها، مما يزيد من مساحة الفوضى التركية التى تستهدف تعطيل الاستفادة القبرصية وحلفائها بكل السبل.
لذلك قد ينظر البعض، إلى المناورات العسكرية «مافى فاتان» باعتبارها محملة أيضًا برسائل للإقليم، لا تقل أهمية وخطورة بحق مصر واليونان، فكلتاهما عضو رئيسى فى «منتدى غاز شرق المتوسط»، وهى بجانب قبرص أيضًا تضم إيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية وإسرائيل. وكل تلك الدول لديها مع تركيا تقاطعات عديدة فى ملفات أخرى. البعض على شكل تحالف وتبادل مصالح، والآخر يتمثل فى درجة تنافس وعداء صريح لن يُستبعد معه الوصول للصدام. وبالنظر إلى «سابقة أعمال» النظام الأردوغانى بالمنطقة وعلى صعيد تلك الملفات، تذهب الترجيحات لصالح استعداد أنقرة للدخول فى صدام بحرى، قد تخطط له، أو تدفع له الأحداث المعبأة بالغاز القابل للاشتعال.