رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«بدون ضامن».. تحقيق تلفزيوني يرصد مأساة داخل دار أيتام بالقاهرة

جريدة الدستور

عقارب الساعة كانت تُشير إلى منتصف الليل، حينما وجدت «صفاء» ـ اسم مستعار ـ نفسها في مواجهة ابن صاحبة العمل الذي التحقت به، فرغم أنه يصغرها بـ 4 سنوات ـ آنذاك ـ إلا أن قلة حيلتها في العثور على مسكن بديل لدار الأيتام الذي نشأت به، أجبرها على المبيت لدى صاحبة العمل، فكانت فريسة سهلة لنجلها ابن الـ 16 عامًا.

في منتصف العام 2013، شعرت كاميليا العربي، مالكة دار أيتام «أحباب الله» في زهراء المعادي، بخطر وجودها في مصر، لكونها من المحسوبين على جماعة الإخوان الإرهابية التي كانت الأجواء السياسية تذهب نحو إسقاط ممثلها في رئاسة الجمهورية، محمد مرسي، في ذلك الحين، فجمعت أغراضها مغادرة البلاد، تاركة نحو 300 شاب وفتاة من أبناء الدار، لمصير مجهول.

كالعشرات ممن تركوا الدار للبحث عن عمل، فعلت الفتاة العشرينية «صفاء» والتحقت بالعمل لدى محل لتجميل السيدات (كوافير) تملكه سيدة تُدعى «علا»، والتي فور علمها بأن العاملة الجديدة تُقيم في دار للأيتام، عرضت عليها الإقامة بصحبتها، وسريعًا ما وافقت الفتاة، حيث خصصت لها صاحبة العمل غرفة في ذلك المسكن الذي يقطن به أيضًا ابنها المُراهق، ولم يمر كثيرًا حتى فوجئت به يقتحم غرفتها ليلًا، ثم انقض عليها، ليُقيم علاقة كاملة معها، وفوجئت بعد فترة قصيرة، أنها تحمل جنينًا في أحشائها نتاج هذه العلاقة.

«جاءت لنا صفاء في حالة سيئة، وروت ما حدث، وحينها حاولنا التواصل مع صاحبة الكوافير تلك، وأخبرناها أنه على ابنها أن يعقد القران عليها، في محاولة لتصحيح الخطأ، غير أنها وجهت لنا الإهانات، وأغلقت الهاتف، في رفض قاطع لطلبنا، فقررنا تحرير محضر شرطة بالواقعة، وأثبت الطب الشرعي، أن هذا الطفل ابن ذلك الشاب».. تقول زميلتها، مؤكدة أن تقرير الطب الشرعي أجبر الشاب على الزواج منها، وأخذوها للعيش معهم، وهناك اعتدوا عليها لإسقاط جنينها، ونجحوا في ذلك، وحصلوا على أموال التبرعات الخاصة بها، والتي تكون في حساب بنكي لكل طفل يتيم، ثم طردوها من المنزل».

وفق اعترافات موثقة حصل عليها الدستور، فإن حادث صفاء تكرر كثيرًا داخل دار الأيتام، في ظل الإهمال الذي يتعرضون له، فكما كشفت إحداهن، فإن كثيرات خرجن من الدار، وعُدن بعد فترة، يحملن سفاحًا، وفي أكثر الأوقات يتم علاج هذه الأمور بزواج مؤقت (لمدة يوم) ثم يحدث الطلاق، إضافة إلى أنهم يُفاجئوا أيضًا ببعضهن يعدن بحمل نتيجة زواج، لكن تم تطليقهن، ويُقيمن بصحبة أطفالهن بالدار، وأن هناك ما يتراوح من 10 إلى 15 مطلقة داخل الدار، في ظل غياب إدارة الدار المكونة من 13 إدارية، لعدم حصولهن على أجورهن منذ شهر يوليو الماضي، ولا يوجد أمن يحرس الفتيات.. تراكم الأزمات، قادهن للخروج للعمل في الخارج، وبعضهن يعدن في أوقات متأخرة من الليل، وأخريات يضطررن للمبيت خارج الدار بسبب رغبتهن في العمل بأكثر من عمل من أجل توفير النفقات.

ثلاثة إدارات تعاقبت على رحيل كاميليا العربي، جميعها لم تفلح في احتواء أبناء الدار الذين تعرضوا لأنواع قاسية من التعذيب في نشأتهم، واستقدمت إحدى الإدارات مجموعة من الأشخاص لحماية الدار، كان عددهم كبير ـ وفقما تقول الفتيات ـ موزعين على ثلاث ورديات، وبدلًا من حمايتهن، كانوا يقومون بالاعتداء الوحشي عليهن، ودخول غرفهن عليهن في أوقات متأخرة لضربهن، كما أن هناك فتيات تعلمن تعاطي المخدرات من خلالهن، ثم أصبحن يُشاركن في بيعها حتى الآن. وهؤلاء العاملين بأمن الدار، كانوا يحصلون على مرتباتهم بانتظام، رغم الأزمة المالية، لدرجة أن كل 8 فتيات كن يتحصلن على رغيف خبز واحد في اليوم، وفي إحدى المرات قام هؤلاء الأشخاص بالاعتداء على الفتيات مُجددًا بشكل وحشي، وتصدى لهم ضابط شرطة، ولقن أحدهم علقة ساخنة، ولم يأتوا مجددًا.

الزواج بـ«البركة».. والعروسة آخر من يعلم.. والموافقة إجبارية

أزمة الزواج داخل الدار، تدخل سببًا في حالات الطلاق التي تحدث، ويُسلب فيها حق الفتاة من إبداء رأيها في الشخص المُتقدم للزواج منها، فالموافقة تُعد خيارًا إجباريًا، على الفتاة أن تتخذه عند إخبارها بالأمر، وقد يكون قبل موعد الخطوبة بيوم ـ كما حدث مع «ن.أ».

الفتاة البالغة من العمر 24 عامًا، تروي لـ«الدستور» أنه في عمر الرابعة عشر، فوجئت بمالكة الدار (كاميليا) تُطالبها بتجهيز نفسها لحفل خطوبتها في اليوم التالي.. تقول الفتاة: تعرضت لصدمة، فكيف ليّ أن تتم خطبتي في هذا السن المُبكر، لكنها لم تسمح ليّ بالاعتراض أو التوضيح، وبالفعل، تمت الخطبة، وظلت لمدة 4 سنوات، وعند وصولي لسن الـ 18 عامًا تم عقد قراني على هذا الشخص قبل إتمام الزفاف، ولم أكن جاهزة، ونحن لم نكن نُناسب بعضنا البعض، وانفصلنا في العام الماضي.. 9 سنوات سُرقت من عمري.

«أي زواجات تتم، تكون بطريقة خاطئة، فلا أحد يسأل عن المتقدمين.. الموافقة تكون فورية» تقولها الفتاة، مؤكدة أن «اخواتها» ـ كما تُطلق على المقيمات بالدار ـ يتعرضن لنفس الممارسات عند تقدم أحد للزيجة منهن.

طفولة ضائعة.. والعِقاب بالحرق

واقع المعاناة لأبناء الدار، لم يختلف كثيرًا عما كان منذ سنوات ـ وفقما أدلوا بأقوالهم لمُعد التحقيق ـ فالفارق لم يكن سوى في وسائل التعذيب التي يتعرضون، والتي كانت تصل إلى حد الحرق في الطفولة، عقابًا على أشياء لا يُسأل عنها الأطفال ـ حسب قولهم-.

ووفق اعترافات وثقها مُعد التحقيق، فإن عِقابًا قد يصل للحرق كان يواجههم في طفولتهم ثمنًا لتبول الأطفال على ملابسهم أثناء نومهم، وأن أحدهم تعرض لضرب أسفر عن وفاته متأثرًا بإصابته بجرح كبير في رأسه، وقالت المشرفة إنه تعرض للضرب من طفل آخر، لتتهرب من المسئولية.

«كاميليا لم تكن تُعاملنا على أننا أبناؤها.. نحن بالنسبة لها مجرد مشروع وفشل.. هي قالت ذلك لنا عندما كانت عازمة على الرحيل.. كانت توجه لنا الإهانات دائمًا، فهي تعرف جيدًا حكاية كل يتيم منّا، وأين عثرت عليه، لذلك كانت تحتقر إحدانا بقولها إنها وجدتها بجانب صندوق قمامة، وأخرى بإنها أخذتها من فم كلب، حتى أن هناك أهالي كانوا يعرفوا أن أبناؤهم داخل الدار، ويأتوا إلى هنا ليأخذوهم، لكن كاميليا كانت تُعطي تعليمات بعدم دخولهم من باب الدار».. تقولها إحدى الفتيات.

بحسب تأكيدات فتيات الدار، فإن مالكة الدار (كاميليا) تحصلت منهم على مشغولات ذهبية كانوا قد تحصلوا عليها كهدايا من كُفلاؤهم ومتبرعين.

سعيد فتحي.. حكاية مريض السرطان الذي أهملته الإدارة

سعيد فتحي، حكاية يتذكرها سُكان الدار بأسى، حول شاب انتهت مسيرته في الحياة بسبب مرض السرطان، الذي ظل متوطنًا بجسده، دون أن يعلم أحد، ويرى شباب وفتيات الدار، أن السبب الرئيسي في تأخر حالته هو الإهمال من جهة الإدارة.

«كان يُعاني من سرطان المعدة، وكانت الإدارة تُعطيه المسكنات باستمرار.. لم يهتم أحد لمعرفة حقيقة تلك الآلام التي كان يشعر بها، حتى أتت أسرته الذين علموا بوجوده في الدار بعد بحثهم عنه، لكنه رفض العودة معهم قائلًا إنه يريد الموت بين إخوته (يقصد نزلاء الدار)، وخضعوا لرغبته، لكنهم تكفلوا بعلاجه، واكتشفوا وجود إصابته بالسرطان، وتوفى بعدها» ـ يقولون عن سعيد.

«التضامن»: لا نُنكر وجود أزمة.. ونعمل على حلها

مكتب علاء عبد العاطي، معاون وزيرة التضامن الاجتماعي للرعاية الاجتماعية، يحوي ملفات كثيرة عن دور الأيتام بمصر.. حاولنا فتحها مع الرجل لنعرف مدى دراية الوزارة عما يحدث في دار أحباب الله بزهراء المعادي.

«هناك مشاكل.. لكن نعمل جاهدين على حلها».. لم يُنكر المسؤول الأول عن دور الأيتام بوزارة التضامن، وجود أزمات، منوهًا على صحة كثير مما جاء في التحقيق، غير أنه تساءل: متى بدأت هذه الأزمات، وكيف؟!.. أجاب الرجل أن أزمة أبناء دار أحباب الله بدأت بالتربية الخاطئة التي انتهجتها مالكة الدار كاميليا العربي، وأن الأطفال كانوا ضحايا لهذه التربية، والتي تسببت في كبت كبير أصابهم، وصل لدرجة الانفجار عندما كبروا.

أضاف عبد العاطي، أن الفترة فيما قبل عام 2014، كانت الأمور الخاصة بدور الأيتام غير منظمة، وكلها تعمل كما تشاء، غير أنه في ذلك الحين (2014) بدأت وزارة التضامن تضع قواعد منظمة لعمل دور الأيتام، وحينها كانت نسبة المشاكل داخل دور الأيتام تتخطى الـ 80 %، أصبحت الآن 20 %، مشيرًا أن عمليات التفتيش من قبل الوزارة فيما مضى كانت تتم في أوقات العمل من الثامنة صباحًا للثانية عصرًا، غير أن الآلية الجديدة التي تنتهجها الوزارة بقيادة الوزيرة غادة والي، أصبح التفتيش فيها على مدار الـ 24 ساعة، مما جعل مسئولي دور الأيتام في حالة تأهب طوال الوقت.

يعاود معاون الوزيرة، حديثه عن دور أحباب الله، مؤكدًا أن أموال الجمعية ـ بما فيها مدارس أمجاد ـ باتت خاضعة للجنة حصر أموال الإخوان، ويتم التصرف فيها من خلال اللجنة، وليس لوزارة التضامن علاقة بها، غير أن الوزارة من مسئوليتها تجاه أبناء الدار، دعمت الدار بمليون جنيه على دفعتين، كما تعمل بشكل دائم على حل مشاكلهم، رافضًا ما وصفه بمزاعم أبناء الدار حول عدم وجود أطعمة، مؤكدًا أن هناك مخزن ممتلئ بشكل دائم بالأطعمة، وتتولى مسئوليته إحدى فتيات الدار.

وأكد الرجل أن دار أحباب الله تعتبر ضمن ثلاثة دور أيتام على مستوى الجمهورية يتم تصنيفها كـ «دور حرجة»، والتي يتم معاملتها بشكل خاص، لوجود مشاكل بها تسببت فيها مؤسسيها، مؤكدًا على عمل الوزارة بكل جهد من أجل حل هذه المشاكل في الفترة المقبلة.