رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبدالشافي يكتب: مصر التي في خاطري


أنا مريض بهواها، وقد لا حظ أولادى ذلك، ولكنهم لم يصارحوننى به إلا وأنا أخطو نحو الخمسين، حيث لا شفاء من الحب والغرام الذى سكن الروح والوجدان، وعلى من يقترب من حبيبتى أن يحتمل ما سأفعل به، غير مسموح فى حضورى وغيابى أن يسىء إليها أحد، زهقان قرفان طالع عينك، مش لاقى تاكل، أمك ما بتدكش مصروف، صحيت لقيت بنطلونك مش مكوى، الشاحن مسروق، أختك خدت الجاكيت وخرجت.. ما تشتمهاش ولا تقرب من اسمها، ما فيش واحدة فى الدنيا كلها زيها غصب عنى وعنك وعن اللى خلفونى وخلفوك.

لو قربت منها أنت أو غيرك هتاخد بالجزمة.. مرض!؟ أيوه مرض، مرض المحبة والذوبان فى ترابها مهما كان معفرًا، وماء نيلها مما تعكر، وغير مسموح لأحد أن يحشر اسمها فى سباب أو تقزيم أو تصغير من قيمتها ومكانتها، ابنتى الكبرى تدرس السينما وفى حوار بيننا قالت: البلد دى محبطة.. وما فيش فايدة فيها..»، وعينك ما تشوف إلا النور، محاضرة طويلة عريضة عن «البلد» اللى هى حبيبتى أنا وأمى أنا، واللى بنتى أنا جاية تقف قدامى وتقولى «محبطة!»، أظنها أيام عاطف الطيب كانت وردى ومزهزة وكل مواطن بياخد مصروفه!، وأظنها أيام خيرى بشارة وداود عبدالسيد كانت مفروشة بالريحان والمرمر!!، مافيش حاجة اسمها «البلد»، فيه حاجة اسمها «ضحى وأشرف وشيرى ومروان وعنايات وسهير..»، ومهمتهن يضفن للبلد فنانًا جديدًا، مونتيرًا عظيمًا، مهندس إضاءة، مالك أنت ومال البلد؟!، الكل بقى بيرمى على نفس الشماعة، نبرة واحدة شغالة بين قطاعات كبيرة من الشباب!، لا رهان على «بلد» قبل الرهان على نفسك وقدراتك التى توفرت لك، لا تسمح بوجود ألف شماعة حولك لتضع عليها إحباطك وفشلك، هناك قطار يجرى يا صديقى بكل العربات التى يجرها، سواء كانت معبأة بالفساد أو بيع الذمم أو بالبهايم والحمير، قطار لن يتوقف ليبكى معك على الخواء السياسى والفراغ البرلمانى واللاجدوى فى المباحثات والمؤتمرات وغياب الضمير الإنسانى فى صفقات السلاح والتين البرشومى!، هذه المعارف الواسعة المتوفرة لك هى حصاد جهود علماء وفنانين ومهندسين وعباقرة سهروا الليالى ليصنعوا لك موبايل ولاب توب وجوجل وموسوعة الأفلام والحيوانات.. وأنت لا تتحرك إلا لتشاهد على اليوتوب ماذا فعلوا فى صفقة التين البرشومى ولمن ذهبت صفقة السلاح؟ أنت مال أهلك يا ولدى بالأعلى قراءة والأكثر مشاهدة وخناقات نادى الأهلى والزمالك وصورة محمد صلاح وهو بيضحك؟ شوف مصلحتك يا حبيبى عشان تلاقى نفسك وتوظف قدراتك وتقتحم سوق العمل بما تمتلك من مواهب ومميزات، لكن هتلطم خدودك وتندب حظك هتفضل فى نفس المحطة وهتموت وما حدش هيعرف اسمك.

لم يسبق لى أن عرفتُ الاكتئاب وأدويته القاتلة وفشل الخروج من كوابيسه المظلمة إلا بظهور الجيف النتنة من نفايات الجنس البشرى التى ملأت الشوارع بعد ثورة يناير، إذ خرجت من جحورها بأمراضها وعقدها وميراث الكراهية الذى كانت تدفنه فى القلب والجسد طوال سنوات، وظلت تزحف عقب «جمعة النصر»، حتى دانت مصر العظيمة الشامخة لمجموعة من الهمج والجهلة والأنصاف رفعوا المصاحف على أسنة الرماح فخرجت معهم جحافل من بيوت وعائلات القرى والنجوع وتواصلت معهم عصابات التجارة بالدين من كل صوب، وحوصرت مصر بالذقون والجلاليب البيضاء، وفاحت روائح البصل والملوخية والفتة الضانى من قصر الرئاسة، الذى أصبح زاوية الجماعة ورجالها من مكتب الإرشاد وقيادات الإخوان فى المحافظات، وتحددت العلاقات الخارجية المصرية وفق مزاج الجماعة وتوافقاتها وصفقاتها، التى تضمن لتنظيمها الدولى السيطرة على مصر من الداخل والخارج، فكانت قطر أولى القبلتين والقرضاوى ثانى الخلفاء بعد مرشد الجماعة، ثم يجىء رئيس جمهورية العربية «الاستبن» فى الدرجة الثالثة، حيث تولى مهمة توزيع الجرابيع الإخوانية على مناصب الدولة ومفاصلها الرئيسية من مؤسسات صحفية وبنوك وهيئات وأجهزة استخبارات أيضًا!!.
تكاثف الضباب وتحول الاكتئاب إلى حالة من الجنون، فالكلاب لم تتطاول على حبيبتى فقط، بل مرمغوا بها الأرض.. وشوهوا صورتها البهية بأعلام القاعدة وهتافات داعش ولافتات الطعن فى النصارى والكنائس!!

زادت حالات الاكتئاب وحبيبتى تُنتهك كل صباح، تفقد ما تبقى من هويتها وسط ضجيج الدين والتجارة بالصلوات والتكبيرات، فلم أجد مهربًا أمامى سوى العودة إلى الجذور، ربما أشم رائحة حبيبتى من جديد، وسافرت لزيارة أهلى وعائلتى فى المنيا، فقد تعرفتُ على هذا العالم من ثقب صغير، قرية صغيرة لم يتذكرها عبدالناصر ورفاقه إلا بمستشفى على أطرافها البعيدة، يموت الأطفال الملدوغون بالعقارب قبل الوصول إليها، قرية تضىء ليلها بالحكايات ومجالس الذكر على لمبات الجاز والكُلوبات، وتنير عقول أطفالها بُكتَّاب للشيخ عبدالله وفصلين للتعليم الابتدائى فقط، قرية يقطع أولادها الراغبون فى مواصلة التعليم الإعدادى أميالًا على الحمير والأقدام الحافية الصغيرة، ويكافح رجالها لتعليم أولادهم وسد جوعهم، كنتُ واحدًا من أبنائها السبعة الذين حصلوا على الثانوية العامة بمجموع يؤهلهم لدخول الجامعات مطلع الثمانينيات، بعد أن كان العدد لا يزيد على ثلاثة أو أربعة على أقصى تقدير، أقول لك إننى تعرفت على العالم من هذا الثقب، وكان واسعًا باتساع رحابة الحقول والقلوب الخضراء، فلم نسمع كلام العيال البايظين عن سمير نصر، فهو نظيف الرائحة والملبس وليس نجسًا كما يدعى هؤلاء الأشقياء، وكنا نذهب إلى بيت سمير ونأكل الفطير، ونخرج مع سمير من دون خوف من العيال الذين انضم إليهم جرجس ناجى بعد أن سمح لنا سمير بدخول الكنيسة ومشاهدة أعاجيب الصور واللوحات والأيقونات، وأوقدنا الشموع وجلسنا تحت شجرة جوافة تنتشر رائحتها حولنا ونحن نلعب.