رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفخ المنصوب فى كل مرة والغافلون السائرون نيامًا


تعاملت أجهزة الدولة بشكل جيد مع حادث قطار محطة مصر ووجدنا توجيهات سريعة من الرئيس بسرعة مواجهة الآثار ومحاسبة المقصرين

فى كل مرة! أيًا كانت وقائع وتفاصيل هذه المرة أو تلك، هل لم ندرك بعد أنه مر على هذا الوضع ما يقارب الستة أعوام. فمنذ ٣٠ يونيو ٢٠١٣، وهذا النسق ينفذ بدأب، تجاه الغالبية الكاسحة من الوقائع التى تجرى على أرض مصر، وفى حال عدم توافر حدث بعينه يجرى اختلاقه بسهولة، ومن ثم ابتلاعه فى يسر، كى يحتل مكانه فى اليقين الجمعى للرأى العام بالداخل والخارج.
لم تكن حادثة القطار المأساوية بمحطة رمسيس، هى الأولى التى يندفع فيها المتربصون بنا خلال «دقائق»، بمجموعة من المواد والأخبار والمقاطع المزيفة، كى يحتلوا بها ساحة التأثير على الذهن العام للمتابعين. فقبلها كانت القائمة فيها؛ وقائع رئاسية، وأحداث عسكرية، وحوادث إرهابية، ومحاكمات قضائية، وقرارات بنكية ومصارف، ومثلها حكومية بصورة عامة... إلخ. هذه القائمة المزدحمة بأنواع وأنماط لها طبيعة، لفت الانتباه المنطقى لأهميتها، وقدرتها الذاتية على صناعة الجدل فى ساحات النقاش المفتوحة، وقبلهما شهية انتقالها كمادة خبرية تطير إلى منصات القذف الإعلامى. جميعها لم تسلم من حملات ومنهجية التشويه والتشويش، ربما البعض منها طالته خيالات أقرب للهذيان، مثل الغواصات التى يبيعها الجيش المصرى بدولار لدول أخرى، نكاية فى منتجيها، أو أن تقوم الأجهزة الأمنية بتنفيذ أو تسهيل عمليات إرهابية لقتل ضباطها وجنودها، من أجل خطط سرية الدولة أعلم بها!.
لكن الغالبية الأخرى، لم تكن هذيانًا أو ترويجًا لخزعبلات فاضحة، فهى تجرى وفق نسق ضرورة صناعة «الرواية الموازية»، بإحكام سيناريو الوقائع المزيفة وبإلحاح وتكثيف نشرها على أوسع نطاق ممكن. هذا النموذج له مثال حديث، تم تنفيذه مؤخرًا فى واقعة «خلية اغتيال النائب العام»، والجميع تابع وقائعها طوال الأسبوع الماضى، حتى بدت هى «الرواية الرسمية» على نطاق واسع امتد لخارج حدود الرأى العام الداخلى، ليصل إلى المستوى الدولى ولتنجح فى طرح العديد من أسئلة الاستنكار، ويظل هذا هو هدف الجهد المكثف الذى يبذله الطرف الآخر، فقد نجح فى ذات المثال، فى تغييب فداحة الجريمة الإرهابية وبشاعتها، أمام سيل هائل من التشكيك فى مصداقية ومهنية إجراءات التقاضى ومرفق العدالة برمته. ولم تكن ذخيرة المنفذين لتلك الحملة وهى صناعة إخوانية بامتياز، سوى المزيد والمزيد من الصراخ، يتوازى معه ضخ هائل للمقاطع المصورة «المعدلة»، وغيرها من أسئلة التشكيك المصنوعة. وسرعان ما تنتقل تلك الذخيرة إلى منصات التواصل الاجتماعى، لتحظى بقوة دفع توفر لها إصابة مضمونة للهدف أو حزمة الأهداف، إن جاز التعبير والتدقيق.
هل لم يمر على الرأى العام مثل تلك النماذج، بل مرت عليه عشرات أو آلاف المرات من قبل، بذات الآليات وعبر نفس المنصات الإعلامية الإخوانية الصريحة والمتخفية، فضلا عن مواليهم، وعلى ذات الحسابات الإلكترونية الحاضرة فى كل تلك الوقائع. مع تكرار كشف مثل تلك الخدع، التى يبذل من وراءها جهد هائل لتمريرها، يتوقع أن يكون الرأى العام على درجة من الرشد، لكنه وللأسف يسقط فى الفخ فى كل مرة، معصوب العينين والوعى بصورة تدعو للدهشة. فالمشكلة وحقيقة الأزمة اليوم؛ ربما ليست مع الإخوان الذين يمارسون الإرهاب وخلافه فى وضح النهار، إنما صارت مع كتلة هائلة ليست إخوانية، لكن ابتلاعها المتكرر للطعم المسموم، أظنه أصبح مثيرًا للقلق بأكثر منه للشفقة. فهم فى كل الأحوال والوقائع، الجمهور المستهدف وصناع المناخ العام، الذى صار معبأ بأبخرة الشك والضيق والإحباط طوال الوقت، رغم أن انتظار ساعات أو أيام معدودة فى المعظم من تلك الوقائع، كفيل بإظهار الحقائق التى عادة ما يعمل عليها المختص بالشأن، لكن أمرًا كهذا يحتاج «قليلًا» من الوقت، وهذا من المنطقى الذى لا يحتاج لشرح أو تنبيه، فى الوقت الذى يكون فيه التعجل و«الجوع» المفرط غير المبرر للحديث والكتابة واستدعاء الصرخات، هو سيد المشهد وللغرابة «فى كل مرة».
المثير هذه المرة، أن يكون التداول المبكر لـ«فيديو» معالج بطريقة ساذجة، لحديث الرئيس السيسى وهو يتناول كيفية تطوير منظومة السكك الحديدية، بديلا عن الثقة فى إلمام الرئيس بتعقيدات الملف كافة، بل مطالبته لوزير النقل على الهواء بالشفافية فى عرض جميع التفصيلات على الرأى العام، ليصير فى غمضة عين وكأنه دليل إدانة للدولة والنظام المصرى. من تداول وروج وصرخ هنا وهناك، هم هؤلاء السائرون نيامًا، والغافلون عما يبثونه من مساحات الإحباط الهائلة التى تتكرر كل يوم. ليصير أى حديث جاد لا محل له من الاستيعاب، ويبقى التشويش والضجيج الفارغ هو سيد الموقف الذى لن يتبدل، طالما أن العقل والتركيز واستجلاء الحقائق لتكوين الرؤى، حكم عليها بالتراجع أمام هذه الفخاخ، التى ما برحت تنصب يوميًا، طالما هناك من هو غافل عن هذه السقطات المتكررة.