رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأفّاق الكبير.. زيارة جديدة إلى عقل سيد قطب

جريدة الدستور

التحول الكبير فى حياته ليصبح الأب الروحى للتكفيريين حدث بعد «رحلة غامضة» إلى الولايات المتحدة
المخابرات الأمريكية التقطت سيد قطب ثم قامت بتوجيهه ليصنع خريطة جديدة للدماء فى بلادنا باعتباره ماسونيًا كبيرًا



ستظل رحلة سيد قطب إلى أمريكا يكتنفها الغموض، ما الذى حدث فيها بالضبط حتى يعود الرجل وقد غيّر فكره تمامًا؟.. مع مَنْ تقابل وعاش واتفق؟.. لم يستطع أحد من المحققين فى التاريخ أن يسبر غور هذه الفترة الفارقة فى حياة هذا الرجل الغريب العجيب، إذ لم يتوافر لدينا أى كتابات عن هذه الفترة، اللهم إلا ما كتبه «قطب» بنفسه وهو لا يكفى للحكم على عامين، هما الأخطر فى حياة هذا الرجل الذى عاش أعزب لم يتزوج، رغم أن فى حياته قصة حب غامضة انتهت بعزوف حبيبته عنه، وبعدها عاش قطب بعيدًا عن النساء وقد غلَف شخصيته بطبقة من الخشونة والحدة.
كان الشعر والشعور هو وسيلة «قطب» فى الدخول إلى عالم الفكر والأفكار، فمن شاعريته وتأمله أخرج لنا عام ١٩٤٥ أول كتاب من نوعه «التصوير الفنى للقرآن الكريم»، كان قطب معنيًا فى هذا الكتاب بالصور الفنية والجمالية فى التراكيب اللغوية القرآنية، وكانت لمساته فى هذا الكتاب لمسات شاعر يستشرف الصور والأخيلة، ومن بعد أخرج لنا كتابه عن «العدالة الاجتماعية فى الإسلام»، عام ١٩٤٩ إلا أنه فى كتابيه هذين كان بعيدًا عن التطرف، كما كان بعيدًا عن التميز، فقد كان السبق وقتها لجيل جديد من المفكرين على رأسهم خالد محمد خالد، والحق أن المجتمع الثقافى فى مصر آنذاك كان يموج بنخبة رائعة راقية من المبدعين.
وفى وسط هذه الأيام ذات الرحيق الخاص وتحديدًا فى أغسطس من عام ١٩٤٨، سافر سيد قطب إلى أمريكا فى بعثة تابعة لوزارة المعارف العمومية لدراسة النظم التعليمية، حيث كانت وزارة المعارف بصدد وضع تصور جديد للتعليم فى مصر وطرقه، فمن غير أمريكا، التى غيّرت وجه العالم، يستطيع أن يمدنا بتصورات وطرق التعليم؟ وكان أن سافر «قطب» إلى أمريكا وظل بها عامين كاملين، حيث انفتح على حضارة العالم الوليد، عالم أمريكا التى شاهدها سيد قطب وكتب عنها «أمريكا التى رأيت».
أمريكا التى رآها «قطب» ودرس خريطتها الاجتماعية والتعليمية هى كما يقول: «الدنيا الجديدة ذلك العالم المترامى الأطراف، تلك المساحات الشاسعة من الأرض بين الأطلنطى والباسيفيكى، ما الذى تساويه فى ميزان القيم الإنسانية؟ وما الذى أضافته إلى رصيد البشرية من هذه القيم، أو يبدو أنها ستضيفه إليه فى نهاية المطاف؟».
كان الشغل الشاغل لـ«قطب» فى هذه المرحلة هو «القيم الإنسانية» التى توافق عليها البشر، كان ميزان القيم الإنسانية هو الميزان الذى يزن به «قطب» الحضارة الأمريكية، إذ لم يتوقف عند الآلات والاختراعات ولكنه توقف على حد قوله عند «مدى ما أضافته تلك الآلات إلى الرصيد الإنسانى من ثراء فى فكرته عن الحياة»، كانت القيم الإنسانية والموسيقى والفن والرسم والأوبرا والسيمفونيات والباليه هى مفردات سيد قطب فى مذكراته عن أمريكا، كانت هى أمريكا الحائرة المحيرة التى رأى أن مشاربها تتجه حينًا إلى العنف والغلظة والأنانية التى تصل إلى حد الإجرام، وأمريكا الإنسانية التى ارتقت أحاسيسها بالفن والموسيقى والباليه والسيمفونيات والرسم.
وكانت لمحاته فى مذكراته تقود إلى أن عودة أمريكا إلى الكنيسة وإلى الدين هو الذى من الممكن أن يرتقى بمشاعرها وإنسانيتها! لذلك لم يجد غضاضة فى أن يدخل الكنائس ويشترك فى الصلوات والتراتيل! ولكنه وفقًا لمذكراته صدم بالمادية الأمريكية التى صبغت الكنائس وهيمنت عليها حتى تلاشت الروحانيات فيها واختفت تعاليم الإنجيل فيقول عن ذلك: «وإذا كانت الكنيسة مكانًا للعبادة فى العالم المسيحى كله، فإنها فى أمريكا مكان لكل شىء إلا العبادة، وإنه ليصعب عليك أن تفرق بينها وبين أى مكان آخر معد للّهو والتسلية، كنت ليلة فى إحدى الكنائس ببلدة جريلى بولاية كولورادو، فقد كنت عضوًا فى ناديها، كما كنت عضوًا فى عدة نوادٍ كنسية فى كل جهة عشت فيها».
ويستطرد «قطب» فى مذكراته مستنكرًا الروح الأمريكية التى حولت الكنائس إلى مراقص «وبعد أن انتهت الخدمة الدينية فى الكنيسة، واشترك فى التراتيل فتية وفتيات من الأعضاء، وأدى الآخرون الصلاة، دلفنا من باب جانبى إلى ساحة الرقص الملاصقة لقاعة الصلاة، يصل بينهما الباب، وصعد الأب إلى مكتبه، وأخذ كل فتى بيد فتاة».
ويصل «قطب» إلى مراده حينما يقول: «وحين تغلق البشرية على نفسها منافذ الإيمان بالدين، والإيمان بالفن، والإيمان بالقيم الروحية جميعًا، لا يبقى هنالك متصرف لنشاطها إلا فى العلم التطبيقى والعمل، وإلا فى لذة الحس والمتاع، وهذا هو الذى انتهت إليه أمريكا بعد أربعمائة عام».
وحين عاد «قطب» تغيرت أحواله، فإذا به ينشر مذكراته التى كان يفتخر فيها بالفنون والباليه والمراقص ويعدها من القيم الإنسانية، ثم يبدأ بعدها مباشرة فى الدخول إلى وجهة أخرى، ففى فبراير من عام ١٩٥٢ بدأ «قطب» فى مجلة «المسلمون» المملوكة للإخوان فى كتابة مقال شهرى رأى أن يكون فى تفسير القرآن الكريم، واختار له عنوان «فى ظلال القرآن» ثم بدا له بعد ذلك أن يكتب تفسير القرآن فى كتاب وليس فى مقالات، فظهر الجزء الأول من تفسير «فى ظلال القرآن» فى أكتوبر من عام ١٩٥٢م ثم أصدر على مدار عامين بعد ذلك ستة عشر جزءًا من الظلال حتى نهاية سورة طه.
وفى غضون عام ١٩٥٤ تم اعتقال سيد قطب بسبب صلته التى كانت قد توثقت مع جماعة الإخوان المسلمين، فقام فى سجنه باستكمال كتابة تفسير الظلال، وكان أن أكمل الطبعة الأولى من تفسيره فى نهاية الخمسينيات، وبعد أن صهر قطب تجاربه كلها خرج لنا مشروعه الفكرى الأخير فقام بعمل طبعة جديدة منقحة بمنهج يختلف عن الطبعة الأولى، ركز فيها على المعانى والتوجيهات الحركية والجهادية فى القرآن، وقد وضع «قطب» فى طبعته المنقحة تصورات جهادية فاصل فيها بين مجتمع الإيمان ومجتمعات الجاهلية، وكان حجم الجزء من الطبعة المنقحة ضعف حجم الجزء من الطبعة الأولى، ومن صفحات الظلال خرج للمطبعة كتاب مثير كان له أكبر الأثر فى تكوين جماعات العنف فيما بعد، ألا وهو كتاب «معالم فى الطريق».
وإذا فتحنا الصفحة الثانية من حياة سيد قطب، بعد عودته من أمريكا نجد أنها كانت تُمهد لكتابه الأخطر «معالم فى الطريق» والذى أعتبره «مانفيستو» جماعات الإرهاب، وحينما كان البعض يضع فارقًا بين حسن البنا وسيد قطب، فيقولون إن الأول كان وسطيًا معتدلًا، فى حين كان الثانى متطرفًا وتكفيريًا، كنت أعتبر تلك التفرقة ساذجة سطحية، فالحقيقة غير ذلك، فهذا كذاك، كل ما فى الموضوع أن البنا قال عبر رسائله إن المجتمع الذى نعيش فيه كافر، وإننا يجب أن نعد العدة ذات يوم للانقلاب عليه، ومقاومته بالقوة، وأظننى عرضت من قبل فى العديد من المقالات فقرات من رسائل البنا التى تؤكد هذا المعنى، أما سيد قطب فلم يقف عند تكفير المجتمع فقط، ولكنه أجاب عن: لماذا هذه المجتمعات كلها كافرة؟.
وقد تعتريك الدهشة من هذا التحول الفجائى الذى أصاب سيد قطب بعد عودته من أمريكا ليصبح الأب الروحى للتكفيريين، ولكن قد تتبدد دهشتك عندما تعرف أن المخابرات الأمريكية التقطت قطب ثم قامت بتوجيهه ليصنع خريطة جديدة للدماء فى بلادنا، ولا يظن أحد أن سيد قطب سافر إلى أمريكا فالتقطته مخابراتها، ولكن سافر إلى أمريكا لتلتقطه مخابراتها وتقوم بتدريبه على مهام سيُكلف بها فى الشرق، ولا غرابة فى ذلك، فسيد قطب كان أحد كبار الماسونيين فى مصر، وكان يحرر المقال الرئيسى لمجلة «التاج المصرى» لسان حال الماسون فى مصر، ولذلك بدأ مباشرة فى الانضمام للإخوان بعد أن كان خصمًا لهم، وحينما وجدهم مجموعة من الجهلاء سيطر عليهم حتى أصبح مرشدهم الروحى.
أما منظومته التكفيرية فيكفينا أن ننظر فى مقدمة كتابه الأشهر «فى ظلال القرآن»، حينها ستجد حالة نفسية شاذة استغرقت سيد قطب، حيث نظر قطب إلى نفسه ثم إلى العالم، فجعل من نفسه فى مكانة عالية سامقة لا يقترب منها بشر، وجعل العالم كله أسفله، فقال: «عشت -فى ظلال القرآن- أنظر من علو إلى الجاهلية التى تموج فى الأرض، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة، أنظر إلى تعاجب أهل هذه الجاهلية بما لديهم من معرفة الأطفال، وتصورات الأطفال، واهتمامات الأطفال، كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال، ومحاولات الأطفال. ولثغة الأطفال، وأعجب ما بال هذا الناس؟! ما بالهم يرتكسون فى الحمأة الوبيئة».
كشف قطب فى مقدمته عن غروره وتعاليه، ثم كشف عن رؤيته للعالم كله، شرقه وغربه، مسلمه وكافره، هو عند نفسه يجلس فى مكان مرتفع، وكل البشر من دونه كالأطفال، حضارات العالم وثقافته، وتصوراته هى تصورات جاهلة كتصورات الأطفال.
كانت تلك هى النفسية التى صاغت نظرية الإسلام السياسى، نفسية متعالية حاقدة على البشرية كلها، ثم إذا بقطب يسترسل عن العالم كله فى «معالم فى الطريق» قائلًا: «نحن اليوم فى جاهلية كالجاهلية التى عاصرها الإسلام أو أظلم.. كل ما حولنا جاهلية.. تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم. حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيرًا إسلاميًا.. هو كذلك من صنع هذه الجاهلية».. هكذا كان قطب يرانا، كلنا أهل جاهلية كالجاهلية التى عاصرها الإسلام فى بدايته، حتى ما نظن أنه فكر إسلامى أو ثقافة إسلامية هو عند قطب جاهلية!.
ثم يستطرد قطب قائلًا: «ولكن ما هو المجتمع الجاهلى؟ وما منهج الإسلام فى مواجهته؟ إن المجتمع الجاهلى هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم! وإذا أردنا التحديد الموضوعى قلنا: إنه هو كل مجتمع لا يخلص العبودية لله وحده.. متمثلة هذه العبودية فى التصور الاعتقادى، وفى الشعائر التعبدية، وفى الشرائع القانونية.. وبهذا التعريف الموضوعى تدخل فى إطار المجتمع الجاهلى جميع المجتمعات القائمة اليوم فى الأرض فعلًا».. يضع قطب بكلامه هذا تعريفًا يجعل من كل مجتمعات الدنيا بما فيها مجتمعات المسلمين مجتمعات جاهلية، وحين يتحدث عن الإسلام يقول: «إنه غير موجود منذ قرون كثيرة، فقد طُمس الحق، وأصبحت القضية ليست هى غياب الجهاد ولكن القضية هى غياب الإسلام».
هذه هى الركائز التى أقام عليها قطب فكره، أما سبب كل ما انتهى إليه يخلص فى تلك الفكرة الشيطانية التى لعب بها بعقول الإخوان وهى أنه اعتبر أن البشرية تتحاكم إلى غير ما أنزل الله، وأن الحاكمية هى المعيار الذى يجعل من هذا مسلمًا وذاك كافرًا، وأن الإسلام اختفى عن العالم منذ قرون طويلة، ولكن قطب بما انتهى إليه خالف كل علماء المسلمين.
ثم كيف اختفى الإسلام من الدنيا منذ قرون كثيرة، إن قول قطب فى هذا الصدد يحمل تكذيبًا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذى قال: «إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد للأمة أمر دينها» الرسول هنا يخبرنا أن الإسلام لن يغيب أبدًا وأنه سيظل قائمًا وأنه كلما استجدت أحداث تجعل من الضرورى تجديد فهمها للدين أرسل الله لها من يقوم بهذا الأمر، ثم كيف يستقيم قول قطب بغياب الإسلام منذ قرون، والرسول هو خاتم النبيين، ذلك أنه عندما يطمس على الحق يرسل الله للبشرية رسولًا يعيد الحق لها مصداقا لقوله «وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا» وطالما أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين إذن يجب أن يظل الحق قائمًا لا يغيب عن الأمة أبدًا.
هذا هو سيد قطب ولا تزال معظم حياته مخفية عنا، وما زلنا إلى الآن نبحث عن حياته السرية وصلاته بالمخابرات الأمريكية، وعندما يرتفع الغطاء عن ذلك الصندوق الأسود لسيد قطب سنعرف السبب الحقيقى لإعدامه.