رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى ذكرى رهبنة شاب تقى


فى صباح ٢٧ يوليو ١٩٢٧ بكّر شاب ورع وتقى يُدعى «عازر يوسف عطا»- وهو يبلغ من العمر ٢٥ عامًا- رتب متاعه وتوجه إلى محطة سكة حديد الإسكندرية، وكان فى توديعه الكثيرون من أهله وأصدقائه ومحبيه، ومن بينهم رئيسه المباشر فى الشركة بالإسكندرية التى كان يعمل بها، وهو السيد ألفريد فاضل، الذى أبلغه تحية مدير عام الشركة، وأنه محتفظ له بعمله ويستطيع العودة إليه فى أى وقت يشاء دون عائق. فابتسم «عازر» شاكرًا له حُسن صنيعه.
استقل القطار ومعه القس بشارة البرموسى إلى محطة الخطاطبة. ثم استقلا قطار شركة الملح والصودا- الخاص بنقل النطرون والملح من «بير هوكر» (أو الهوكرية) للخطاطبة- ووصلا «بير هوكر» عند الغروب، وكان فى انتظارهما رهبان من الدير ومعهم دواب لنقل الأمتعة. وصلوا الدير الساعة الثامنة مساءً، فاستقبلهم الرهبان بحفاوة وغسلوا لهم أرجلهم، كما هى عادة الرهبان. وأتذكر أنه فى صيف ١٩٧٠- كنت وقتها طالبًا بالسنة الثانية بهندسة الإسكندرية- توجهت لدير مار مينا بمريوط بالقطار للصلاة مع البابا كيرلس السادس، ووصلت الدير بعد أن سرت لمدة ساعتين منفردًا فى الصحراء من محطة القطار ببهيج إلى الدير، وعندما قابلنى البابا كيرلس السادس واستفسر منى كيف حضرت إلى الدير، أخبرته: سيرًا على الأقدام. فطلب من رهبان الدير أن يغسلوا رجلىّ ولكنى رفضت وأخبرته بإنى بخير وغير مرهق. ما أن وصلوا قدم القس بشارة لأمين الدير القمص شنوده البرموسى مرافقه الشاب عازر على أنه زائر من الإسكندرية من أبناء الأنبا يؤانس مطران البحيرة والمنوفية ووكيل عام البطريركية، لذا أنزله بقصر الدير، وأدار له ماكينة النور لينير القصر، وقدموا له العشاء.
وفى الصباح سلم القس بشارة خطاب الأنبا يؤانس لأمين الدير، وعرف منه أن الشاب عازر طالب رهبنة، وليس بزائر، فتم قرع جرس الدير وحضر جميع الرهبان عند سماع دقاته ليستطلعوا الخبر، فأعلمهم أمين الدير بما كان فاستبشروا خيرًا وقالوا إن هذا أول طالب رهبنة يُقابل بهذه الحفاوة، لا بد أن يكون له شأن يُذكر.
أرشده الأمين إلى قلاية خصصها له ليقيم فيها، وكانت خالية متروكة منذ زمن تحتاج إلى الكثير من النظافة، كما أرشده إلى المكان الذى يوضع فيه الخبز، ليأخذ منه ما هو فى حاجة إليه، ثم تركه ومضى. قام الشاب عازر وأخذ حجر الجبس قبل حرقه ودقّه جيدًا فى أرضية القلاية، ورشه بالماء، فصار متماسكًا جدًا، وأخرج من حقيبته ورقًا سميكًا أحضره معه، وفرش به أرضية القلاية، ورتب مكانًا لنومه، ومكانًا لجلوسه ورتب حقائبه لتُصبح كمائدة تتوسط المكان، وارتدى جلبابًا أسود وطاقية، وأصبح وكأنه وُلد راهبًا منذ زمان. كان القس بشارة متلهفًا على الاطمئنان على الشاب عازر، إذ لم يقدم له أحد فى الدير أى مساعدة، ولكن أمين الدير نبهه إلى أن يتركه وشأنه حينًا من الزمن لتظهر آثار ما لقيه من معاملة فى نفسه، وليعلم قدرته على تحمل صعاب الطريق الجديد. أما الشاب عازر فكان مواظبًا على الصلوات، فإذا ما دق جرس نصف الليل، فإنه يقوم متوجهًا إلى الكنيسة ليشترك فى التسبحة والصلاة، ويعود إلى قلايته نحو الساعة السابعة صباحًا دون أن يختلط بالرهبان.
وفى مساء أحد السبوت، وقد مضى على الشاب عازر عدة أيام، ولم يسأل عنه أحد، قال أمين الدير للقس بشارة ومجموعة من شيوخ الدير «هيا بنا نتفقد الأخ طالب الرهبنة لنرى كيف حاله؟»، فذهبوا إلى قلايته فوجدوا أمامها نظيفًا مكنوسًا مرشوشًا بالماء. ولما دخلوا القلاية أعجبهم ترتيبها الجميل، وتعجبوا مما رأوا. فقال لهم القمص عبدالمسيح المسعودى: «أصله حارت، ومستنى السيل» أى أنه أعد ذاته لقبول سيل نعمة الله. وعند انصرافهم، ودعهم عازر بملء الاحترام، فقال له القمص عبدالمسيح المسعودى: «يا ابنى إن نعمة الرهبنة هى تسليم القلب لله وهى أعظم المقتنيات، وأثمن من كنوز الأرض وخيراتها. والراهب الذى افتقر باختياره وجهز نفسه ليكون جنديًا أمينًا للمسيح لهو أعظم من ملوك الأرض وحكامها قوة ومكانة. وقد اتسع قلبى لك، وأسأل ربى أن يوفقك، ويفتح لك باب النعمة، ويهديك إلى سبيل البر، ويملأ قلبك اطمئنانًا لتسير فى غربة الحياة آمنًا، فلا تخاف شرًا، والله معك، وعصاه وعكازه يهديانك». فقام الشاب عازر بتقبيل يديه، أما هو فقد احتضنه وقبّله، وقال له: «منذ هذه الساعة قد وهبك لى الرب لتكون ابنًا مباركًا» فتهلل الآباء فرحين.
وتمر الأسابيع والشهور، وبعد أن اكتسب الشاب عازر رضا الرهبان، كبيرهم وصغيرهم، وبعد أن اطمأن شيوخهم إلى طهارة سيرته وقوة عزيمته، وفى يوم ٢٥ فبراير ١٩٢٨ مع بدء الصوم الكبير، زكوه جميعًا ليكون راهبًا بينهم. فابتدأوا بصلاة عشية، ثم صلاة نصف الليل، وسجد عازر أمام الهيكل بكنيسة العذراء الأثرية، وتمت طقوس رهبنته ودعوا اسمه «مينا» (إذ كان هذا اليوم يوافق تذكار نياحة مينا الراهب) وحضر صلوات القداس فى الصباح. وبعد ذلك طافوا به أرجاء الكنيسة بالشموع والصلبان، كعادة الرهبان فى الأديرة مع الراهب الجديد.
دخل الراهب مينا حياة جديدة، ووضع رجله على أول درجة فى سلم جهاده بعد الرهبنة، ووضع لنفسه قانونًا سار عليه مدى حياته هو: «أن يحب الكل، وهو بعيد عن الكل». وبعد حياة مليئة بالجهاد الرهبانى الصادق، أعلنت السماء- بكل وضوح-اختيارها لهذا الراهب المسكين والمتضع بالحقيقة فى يوم الأحد ١٩ أبريل ١٩٥٩- بعد قرعة هيكلية نزيهة جدًا أمام الجميع- ليكون هو الراهب المختار لأسقفية الإسكندرية. وفى يوم الأحد ١٠ مايو ١٩٥٩ تمت سيامته باسم البابا كيرلس السادس البطريرك ١١٦، فكان يومًا مشهودًا ما زالت تتحدث عنه الأجيال. وبعد رحلة جهاد حقيقى رحل فى يوم الثلاثاء ٩ مارس ١٩٧١ تاركًا تاريخًا مجيدًا فى سجل الكنيسة القبطية. فالشاب الذى اجتهد فى حداثته بإعداد قلايته جيدًا، استأمنه الله فى شيخوخته على تدبير أمور كنيسة، وكان سندًا قويًا له وناجحًا فى كل ما امتدت إليه يديه المباركة، واستمتعنا بوجوده معنا، وكان يوم فراقه حزينًا على المصريين جميعًا.