رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبدالشافي يكتب: ختان الحكيم كتاب «أرنى الله» يتحول إلى حواديت ساذجة للأطفال



كنتُ أعيد قراءة بعض أعمال توفيق الحكيم لتقديمها فى ذكرى ميلاده، لكننى تعثرت فى خيط أوقعنى على بوزى فتفرغت للبحث عن أوله وآخره، فما معنى أن يكون للحكيم كتاب للأطفال وأنا غافل عنه؟، كيف غاب عنى رغم صدوره فى ٢٠٠٥؟ وأين كنتُ حين توصلت دار الشروق وصاحبها إبراهيم المعلم إلى هذا الاكتشاف الرهيب الذى لم يأت لنا به كل دارسى ومتخصصى الحكيم طيلة كل هذه السنين؟.
الأخبار المتوافرة عنه تقول إن الحكيم كتبه فى السبعينيات وأنه سجل القصص بصوته، ما يؤكد أن حدثًا عظيمًا قد وقع ولم أنتبه إليه!، وبعد وصلة تأنيب للضمير، وندم على جهلى وخيبتى الكبيرة، كان لا بد من العثور على هذا الكتاب الغريب العجيب «حكايات توفيق الحكيم للصبيان والبنات». ذهبتُ إلى دار الشروق فى ميدان طلعت حرب فلم أجد الكتاب على رفوفها، فسألت البائع فقال إنه نفد، فسألته: هل مع الكتاب أسطوانة سى دى أو شريط كاسيت؟، فابتسم وهو ينفى ذلك، فاشتريت رواية «باب الخيمة» وفجأة دخل مؤلفها الصديق محمود الوردانى غاضبًا وهو يسأل عن سعر روايته، فقلتُ له بلهجة الندم بعد التورط فى الشراء: بخمسة وسبعين جنيه يا محمود أفندى!، فقال إنه عائد من عند الناشرة الدكتورة فاطمة البودى وأخبرته أن سعرها «ستون جنيهًا» فقط وأن هذه سرقة علنية!. هدأتُ روعه وخرجنا إلى المقهى وأنا أفكر فى كتاب الحكيم والخمسة عشر جنيهًا التى دفعتها زيادة عن سعر دار «العين»، المهم إننى عثرتُ على النسخة الوحيدة من كتاب «حكايات توفيق الحكيم للصبيان والبنات» فى فرع الشيخ زايد، وسألت مرة أخرى إن كان هناك تسجيل صوتى مع النسخة، فابتسم البائع كما ابتسم زميله من قبل، فأخذت الكتاب وجريت على البيت لأكتشف ما جهلتْ.
«حكايات توفيق الحكيم للصبيان والبنات» يضم قصة مسروقة




تأملتُ الكتاب فى إعجاب شديد بالهارد كافر وبرسومات الفنان حلمى التونى ورحت أتحسس الغلاف سعيدًا بإضافة قصص الأطفال إلى مؤلفات توفيق الحكيم، وبدأت فى البحث عن جواب لسؤالى: متى كتب توفيق الحكيم للأطفال؟ وكيف توصل هؤلاء العباقرة إلى ما لم يتوصل إليه أحد قبلهم؟، يقول الناشر فى كلمته على ظهر الغلاف: «.. اكتشفت دار الشروق وهى تراجع أعمال توفيق الحكيم المختلفة التى تعتبر من روائع الأدب العربى فى القرن العشرين تمهيدًا لنشرها فى مجموعة من الأعمال الكاملة لهذا الأديب الكبير أنه كتب هذه الحكايات الثلاث الجميلة للأطفال وأهداها إلى حفيدته (العزيزة الحبوبة العصفورة الذكية الأمورة، مع حبى وقبلاتى الموفورة)... ودار الشروق تقدم هذه القصص العذبة فى هذه الصورة الجميلة وتهديها لكل أطفال مصر والعالم..».
وفى المقدمة المنسوبة إلى توفيق الحكيم نجده يقول: لماذا أكتب للأطفال؟. إن الفكرة عندى ليست أن أكتب لهم ما يخلب عقولهم، ولكن أن أجعلهم يدركون ما فى عقلى.. فلقد خاطبت بحكاياتى الكبار، وأخاطب بها اليوم الصغار.. فإذا تم ذلك فهم لنا إذن أنداد.. ولماذا أخاطبهم بصوتى؟ لأن المقصد عندى هو أن أتيح لهم الاحتفاظ بوثيقة أدبية تجعلهم يقولون فى القرن القادم نحن نحتفظ بصوت كاتب كان معروفًا فى القرن الماضى.. وكل أملى أن يحتفظ أطفال اليوم بصوتى مسجلًا ليعيدوا سماعه وهم كبار..».
نحن إذن بصدد موضوع كبير كنا نجهله، صحيح أن مقدمة الحكيم سخيفة وساذجة وتبدو ملفقة، فلم يكن الحكيم كاتبًا محترفًا للأطفال حتى يبدأ مقدمته بسؤال: لماذا أكتب للأطفال، وصحيح أنه لا تسجيل صوتى مع الكتاب، ولكن لا بأس، واستعنتُ بالله وبدأت القراءة لتصفعنى الصاعقة الكبرى التى تستوجب عقابًا للناشر يبدأ من الجلد ولا ينتهى عند الصفع والتوبيخ، فالكتاب الذى يضم ثلاث قصص بمقدمة رديئة ليس سوى تحريف لكتاب «أرنى الله» وليس سوى حلقة من حلقات التدليس والتضليل والتلاعب بمؤلفات كاتب كبير لا يستحق هذا العبث والتجارة به وباسمه، كما لا نستحق نحن القراء أن يتلاعب بنا هذا الناشر أو غيره.
من القصة الأولى «العصفور والإنسان» نكتشف أن السيد الناشر قام بتحريف قصة «دولة العصافير» التى جاءت فى كتاب «أرنى الله»، والتى تحكى عن عصفور يحدث أباه متسائلًا: «ألسنا نحن العصافير خير المخلوقات؟»، ويحاول الأب إثبات ذلك بكشف طمع الإنسان وكيف أنه يفقد عقله الذى ميزه به الله، ويغامر العصفور الأب بالوقوع فى فخ نصبه له إنسان ولكى ينجو من الذبح طرح على الإنسان صفقة تتضمن إطلاق سراحه مقابل ثلاث حكم ينل بها هذا الإنسان خيرًا كثيرًا، ويطير العصفور ويقف على الشجرة ويقول للإنسان إن بطنه تحمل جوهرة وزنها عشرون مثقالًا، فيعض الإنسان على يديه ندمًا ويخاطبه العصفور: «أيها الإنسان الطماع.. طمعك أعماك.. فنسيت الحكمتين الأولى والثانية.. فكيف أخبرك بالثالثة؟! ألم أقل لك: لا تتحسر على ما فات، ولا تصدق ما لا يمكن أن يكون. إن لحمى وعظمى وريشى لا يصل فى الوزن إلى عشرين مثقالًا.. فكيف تكون فى بطنى جوهرة وزنها أكثر من عشرين مثقالًا؟!. وبالمقارنة بين المسخ والأصل يبدو الناشر كمن قام بعملية ختان للقصة فجزّ هنا وبتر هناك حتى سال الدم!.
وفى القصة الثانية «الله وسؤال الحيران» نجد السيد الناشر قام بتحريف قصة «أرنى الله» نفسها والتى حملت اسم واحد من أهم كتب الحكيم وأثارت عاصفة من الجدل منتصف الثمانينيات، لكن الناشر قام بتبديل عنوانها ليصبح ساذجًا على هذا النحو «الله وسؤال الحيران!» ثم وضع مقدمة رديئة وحذف بعض العبارات لإتمام عملية الختان للقصة التى تدور حول طفل يسأل والده عن الله ويطلب منه أن يراه: «أنت يا أبى تتحدث كثيرًا عن الله‏..‏ إننى أريد أن أرى الله الذى تتكلم عنه كثيرًا‏،‏ وعندها وقع الأب فى حيرة‏..‏ كيف يمكن أن يلبى طلب ابنه هذا؟ فيذهب إلى الناسك الذى يتحول إلى رجل من أولياء الله الصالحين فى دار الشروق ويطلب منه أن يساعده فى أن يرى الله، فيقول العجوز: إن الله لا يمكن أن نراه بعيوننا الضعيفة.. انظر إلى الشمس.. وطلب منه أن يثبت عينيه على الشمس، وبعد دقائق لم يعد قادرًا على النظر، فيقول العجوز: إن نور الشمس الذى حرق عينيك هو شىء قليل ضئيل بالنسبة إلى نور الله الذى خلق هذه الشمس وملايين من الشموس والنجوم.
إذن لم يكتب الحكيم للأطفال، ولم يكتشف المهندس إبراهيم المعلم كنزًا مدفونًا إنما قام بتحريف طفيف لقصتين من كتاب «أرنى الله» ربما لتبسيط اللغة على الأطفال فطالما قرر الرجل تحويل توفيق الحكيم إلى كاتب أطفال فكيف نحاسبه على اختيار ما يناسب الأطفال الذين يخاطبهم بلسان توفيق الحكيم؟!.
هذا كله قد يهون أمام القصة الثالثة وعنوانها «المؤمن والشيطان» إذ لم أجد لها أثرًا فى كتاب «أرنى الله» الذى تم السطو على قصتين منه، كما لم أجد فيها سوى إفراط فى السذاجة والركاكة لا تناسب الحكيم، فبحثتُ حتى وجدتها وبئس ما وجدت مدسوسة على الحكيم ومنقولة بالنص من كتاب «تلبيس إبليس» لابن الجوزى، كما وردت بصيغة أخرى فى كتاب عجائب المخلوقات للقزوينى زكريا بن محمد، وستجد لها أصداء فى الموروث الدينى المسيحى واليهودى فهى حدودته ساذجة عن إنسان مؤمن يحمل فأسه ليقطع شجرة كان الناس يعبدونها فليتقى بالشيطان الذى يغويه ويشترى ضميره ودينه بوضع دينارين من الذهب تحت رأسه كل صباح مقابل أن يصمت الإنسان المؤمن ويتوقف عن محاولات قطع الشجرة!، وقد وردت قصة الشجرة فى مئات الحواديت الدينية مع تغيير صفة الرجل الذى يحمل الفأس لقطعها فيكون «العابد، والناسك، والراهب، والشيخ، والقديس» ومن عاشر المستحيلات أن يسطو توفيق الحكيم على شجرة قطعها قبله عشرات المؤلفين.

إبراهيم المعلم تورط فى «جريمة» تستوجب تحركًا من الجميع لإيقافها



لم أصل إلى كل هذا بالسهولة التى تقرأها الآن، فقد توقفت طويلًا مندهشًا غير مصدق أن الجرأة يمكن أن تصل بناشر كبير إلى حد تزييف أعمال كاتب بحجم توفيق الحكيم!، والمهندس إبراهيم المعلم صاحب دار الشروق ليس طفلًا فى سوق النشر حتى يقع فى فضيحة من هذا النوع!، كما أن مرور أكثر من ثلاثة عشر عامًا على صدور الكتاب جعلنى فى حيرة من أمرى، هل سأكون أنا أول من قرأ قصص الأطفال المزيفة يا رب العالمين؟ هل مرّت الجريمة مرور الكرام على النقاد والأدباء وعشاق توفيق الحكيم؟ وهل يمكن لناشر تحويل كتاب تنويرى ظهر فى منتصف الثمانينيات وأقام الدنيا ولم يقعدها إلى حكايات ساذجة بإضافة مقدمة رخيصة وتبديل عبارات وحذف الأخرى؟ هل يجرؤ شخص على التلاعب فى كتاب بهذه الشهرة؟.
أسئلة كثيرة لم أجد لها جوًابا، راجعت المقدمة التى يقول فيها الحكيم إنه سجل هذه القصص بصوته وبحثت عن التسجيل الذى يقطع كل شكوكى ويستبدلها بيقين، ثم اكتشفت أن الرجل لم يقصد تسجيلها صوتيًا كما نشرت الصحف وكما فهم بعض محررى الصحافة الثقافية، بل قصد تخليدها بقلمه كأنها بصوته، ثم راجعت كلمة الناشر حول الاكتشاف وقصته فتأكدت أن هناك جريمة كاملة، فالطريقة التى تكتشف بها دار الشروق «الكنوز والنوادر» تتكرر كثيرًا ولم يعد فى الإمكان تصديقها بعد حوادث سابقة كان آخرها مع نجيب محفوظ، وقررتُ أن أكتب ما رأيت وما قرأت وما راجعت لأضع الأمر كله بين يدى مشايخ النقد والأدب فى مصر وخارجها، خصوصًا عشاق توفيق الحكيم وعلى رأسهم الكاتب المجتهد إبراهيم عبدالعزيز الذى أفنى عمره تحت قدمى الحكيم يستمع إليه ويكتب عن حياته وحكاياته وأسراره، فهل أخفى عنه الحكيم أمر الكتابة للأطفال؟ وهل كان جاهلًا مثلى بصدور هذا الكتاب؟ وأين الأستاذ محمد سلماوى، وكان واحدًا من المقربين لتوفيق الحكيم وارتبط مع عائلته بعلاقة قوية بعد زواج شقيقته «هيدى» من إسماعيل توفيق الحكيم الذى رحل عن دنيانيا وهو فى الثلاثينات؟ وأين الدكتور جابر عصفور أحد شيوخ الكتابة والنقد فى مصر وأين الناشرون والأدباء والكل كليلة؟!
سأنتظر توضيحًا فما زلت غير مصدق أن تلك الجريمة وقعت فى صمت دام كل هذه السنوات، فربما كان المهندس إبراهيم المعلم يمتلك تسجيلًا صوتيًا بصوت الحكيم ويحتفظ به لحين ظهور أمثالى من المشككين وأعداء النجاح ليضعه فى عيونهم الوقحة، وها أنا مستعد من الآن وسأضحى بعينى فى سبيل الحقيقة إن ظهرت.
ولا أظن أن كتابا فى شهرة «أرنى الله» يحتاج إلى جهد للبحث عنه، فهو متوفر فى كل بيت تقريبًا إن لم يكن بفضل مكتبة الأسرة التى أعادت طباعته فسيكون موجودًا بسبب الأزمة الشهيرة التى أعقبت صدوره حينما اندفع الشيخ الشعراوى، رحمه الله، اندفاعًا لا يليق به وأصدر بيانًا تكفيريًا وقحًا فى التحريض ضد الكاتب والكتاب، الأمر الذى استدعى ظهور جيش من المشايخ والمنتفعين وكارهى الثقافة والأدب فهجموا هجمة التكبير الشهيرة وأحلو دم توفيق الحكيم وكل المثقفين الملاحدة الكفرة الفجرة الذين يخاطبون الله كأنهم أنبياء!!، وكانت تلك بالفعل مبررات الشيخ الشعراوى فى بيانه التحريضى، فقد اعتبر الحكيم كافرًا لمجرد التفكير فى مخاطبة الله، وطرح أسئلة وجودية وفلسفية عظيمة المعنى، أقول إن الكتاب متوفر ويمكن مقارنته بالمسخ المنشور فى دار الشروق، وتلك دعوة لكل الباحثين والنقاد فربما كنتُ على خطأ، فليس من المعقول أن يظهر لنا الشيخ الشعراوى فى طبعته الجديدة ويلعب فى مؤلفات الحكيم ويهندسها ويشذبها ليبيع بضاعة فاسدة لجمهور يتم استعباطه وقلوزته بأكاذيب ملفقة.. ونحن نتفرج!.