رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

احضر فورًا

جريدة الدستور



تهدَّل الفم العجوز لعامل (التلغراف)، كان وجهه أسمر غامقًا، وعيناه متقدتين، سلمنى بيده- المرتعشة المعروقة- برقية تلغرافية، بها كلمات قليلة، منطوقها:
(احضر فورًا لأمر عاجل).

امتلأ سرادق عزاء أبى بالمعزين.. وقفوا أمامى، مدوا أياديهم بالعزاء، وأنا أتمتم بكلمات تنم عن حزن دفين:
(شكر الله سعيكم).

بعد ما يقرب من شهر..
سلمنى- نفس العجوز- برقية تلغرافية…
(احضر فورًا لأمر عاجل).
فانتابنى شعور بالدوار، ووجدتنى لا أستطيع تبين ملامح هذا العجوز الشؤم، وهو يقف أمامى.. كنت- فقط- أسمع تردد أنفاسه المتهدجة، ووقع خطوه الرتيب على الدرج الرخامى الحلزونى..
«طق.. طق.. طق..».

كان المشهد يتأرجح بين الوهج والظلام، عندما استقبلتنى أمى بوجهها الصبوح، وطوقنى أخى وأختى بحضن دافئ، تنفست الصعداء، وقر هائجى وسكن..

قالت لى أمى: ضابط المباحث بالمركز طلبك وأكَّد على ذلك اليوم، لأمر هام، لا نعلمه.

عند مدخل مركز الشرطة العتيق، بأبوابه ونوافذه وتنداته المائلة.. أحسست بشىء يجذبنى إلى الأرض، ولكننى تماسكت، وقفت ساهمًا أحملق فى النباتات الشيطانية التى ملأت الطرقة الترابية، عندما تنامى إلى سمعى- من ضابط المباحث- أن الجثة الممزقة التى دفناها (الشهر اللى فات)، ليست جثة أبى، ولكنها تشبهها.

الليل ساكن، والقرية نائمة، والظلام.. (يبرك عليها يُفطَّسها)..
ولما شارفت على مداخلها، ودروبها الثعبانية، كان الحشيش المتطفل يغطى التربة، وأكوام السباخ ترقد على رأس الغيطان، رحت أحاول أن أحدد مسارات الطريق واتجاهاته، وعلى ضوء المشاعل البعيدة، كنت أرى عيون الأشباح تبرق فى الظلام، كان الليل ينشر رواقه، ولفتنى العاصفة الهوجاء، ولاح لى النخيل يُطوق بيوت القرية، والغبار الشديد قد حجب- أمامى- الرؤية تمامًا، ابتسمت فى مرارة، لحظتها، وجدته أمامى، عند الساقية المهجورة القبلية، حملقت فى هيئته، كان طيفًا لرجلٍ طاعن السن، يرفل فى رداء (كَستور مُقلّم)، لحيته نابتة، يرقد على رأسه المدبوغة فودين اشتعل الشيب فيهما، تزاحمت الرؤية فى عينى، لحظتها، كان الفجر يحاول أن يغسل بيوت الفلاحين بالنور، والليل ينسحب بنقيقه وصريره، أحسست بيده تقبض على ذراعى فَّى حنوٍ، سرت فى جسمى رعشة، أحاول أن أرتق ذاكرتى، ابتسمت فى وجهه، وكدت أن أبكى، كنت أشعر بهواء رطب ينبعث من خلفى، ملامحه الساكنة فى خطوط وجهه كانت تغير تشكيل صفحة سحنته إلى زوايا حادة.. نعم هو بشحمه ولحمه.. وجدت الدم يتدفق فى عروقى من جديد، عندما طن صوته فى أذنى وهو يقرأ ما أخرجه من حقيبته الجلدية عليها قماشة بيضاوية متهدلة كـ(بادج)، مدون عليها... (مكتب تلغراف شُبرا)
(احضر فورًا لأمر عاجل).