رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المشكلة مع أقسام الشرطة

جريدة الدستور


فى المقام الأول لم يتمن الصبى الذهاب إلى قسم الشرطة للتبليغ عن كلب عمته الصغير المنقط. كان يشعر بالحزن لأنها أضاعت كلبها ولكنه لم يكن يحب أقسام الشرطة. وقال لها «لدى مشكلة مع أقسام الشرطة»، فردت «إن جيلكم لديه مشاكل مع كل شىء والطريقة الوحيدة للتغلب على مشكلتك مع أقسام الشرطة هى أن تدخل أحدها».
كان واثقًا من مغالطتها. كان فى الثامنة عشرة من عمره. وكان قد تعرف بفتاة فشلت هى الأخرى فى التغلب على مشكلتها مع مكاتب البريد. ولأن عمته كانت حزينة على كلبها، فلم يكن أمامه إلا أن يذهب.
كان مساءً مظلمًا فى منتصف شهر يناير. واستغرق وقتًا طويلًا جدًا حتى يصل إلى نهاية طرق الريف الجليدية الملتوية التى تقود إلى قسم الشرطة. كانت الدروب تمر عبر أرض محفورة ومهجورة منذ عشرين عامًا. فالطبيعة هنا لم تتعاف. وعلى الرغم من أن هذه الحفر تبدو فى الصيف طبيعية عندما تغطيها الأحراش الطويلة وزهور «دانتيل السيدة» ذات اللون الأبيض المشوب بالصفرة، إلا أنها تبدو فى الشتاء كجروح أرضية بها أشواك سوداء. وفى سره كان يخاف منها بشدة ودومًا يمشى فيها خلسة حتى لا تلحظه هذه الحفر المخيفة.
وكانت عمته دومًا تخفف من وطأة هذا المشوار فى الدروب المحفورة قائلة:
- «لن تستغرق أكثر من خمس دقائق مشيًا على الأقدام».
لم يكن يعرف ماذا كانت تقصد بخمس دقائق. وعلى كل حال كانت السماء قد أظلمت فى الوقت الذى وصل فيه إلى قسم الشرطة، ومضى وقت العصر.
دخل ورأى شرطيين يجلسان عند الطاولة. أحدهما كان يكتب فى دفتر. ولمدة طويلة لم ينتبه أى منهما لوجوده، وتساءل إن كان عليه أن يسعل أو يقول شيئًا مثل «المعذرة أنا هنا بشأن كلب صغير أبيض اللون ومنقط باللون الأسود؟»، أو «هل ممكن أن أتحدث مع المسئول؟»، ثم تذكر أنه عندما كان تلميذًا كان أحد أساتذته يقول له دومًا «الشجاعة فى التعقل». فاحتفظ بهدوئه وانتظر.
رجل الشرطة الذى لم يكن يكتب فى الدفتر، كان يسند مرفقيه على الطاولة وذقنه بيديه، وكانت عيناه هائمتين فى فضاء غامض. وملامحه ضخمة ومغتمة وكأنه رجل من الفايكينج موجود فى مكان غريب.
كان خلف الشرطيين باب نصفه الأعلى من الزجاج المخشن. وكان خلفه شخص. وكان باستطاعة الشاب أن يرى خيالًا يتحرك.
بعد مدة طويلة قال شخص من وراء الباب «رقم ٢٩٢ اتبعنى! رقم ٢٩٢ اتبعنى!».
وعلى الفور عدل رجل الفايكينج جلسته، بينما وضع رجل الشرطة الآخر قلمه جانبًا. ثم خرجا من وراء الطاولة معًا واتجها نحو الصبى.
قال الفايكينج للشاب «رقم ٢٩٢ اتبعنى». وكرر الآخر «رقم ٢٩٢ اتبعنى».
أصابته الدهشة. فمن الواضح أنهما يتوقعان منه أن يتبعهما، وكان على وشك فتح فمه للاعتراض عندما سيطرت على عقله حكمة «الشجاعة فى التعقل» و«إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب». وهكذا بقى صامتًا. ولكن عندما شعر بالإهانة فى نبرة صوتهما وهما يناديان عليه لم يتحرك. فمسكه الفايكينج من معصمه وسحبه إلى غرفة داخلية ولحق بهما الشرطى الآخر.
أصبح هناك الآن ثلاثة رجال من الشرطة. جلسوا على كراسى بسيطة صلبة موزعة حول ثلاثة أضلاع من الطاولة، أما الشاب فقد وقف عند ضلعها الرابع وهم ينظرون إليه.
وبعد مضى وقت طويل جدًا كتب الشرطى الثالث الذى نادى «رقم ٢٩٢ اتبعنى» ملاحظات على بعض الورق. ثم رفع نظره وتحدث إلى الشاب بصوته العالى: «كان هناك جريمة لا توصف. مذنب أم غير مذنب؟».
فتذكر قولًا مأثورًا «إذا لم تخاطر بشىء فلن تربح شيئًا» وتحدث قائلًا «أى جريمة؟».
ورد عليه الشرطى «استخدم عقلك من فضلك، فنحن لا نستطيع التحدث عن جريمة لا توصف. مذنب أم غير مذنب؟».
وقال الصبى «أنا أطالب بمحاكمة قانونية». وكان هذا غباء منه فقد كان عليه أن يقول «أعتقد أن هناك سوء فهم». لكنه لم يفكر بهذا فى تلك الدقيقة العصيبة، وفى الحقيقة انتابه إلى حد ما شعور بالفخر لأنه فكر بالمطالبة بمحاكمة قانونية.
وعلى الفور نهض الفايكينج من مكانه وصرخ «رقم ٢٩٢ للمحاكمة». وفُتح باب فى الجانب الآخر من الغرفة. ثم دخل ثلاثة رجال شرطة آخرون. كبلوا يدىّ السجين وساقوه فى ممرات عديدة. وبعد أن ساروا لمدة لا تقل عن نصف الساعة وضعوه فى زنزانة وأقفلوا عليه الباب.
قضى تلك الليلة وهو متأكد أن عمته ستأتى فى الصباح وتوضح الأمر. وتصور أنها حتمًا أتت ووجدت قسم الشرطة مغلقًا.
وفى الصباح فتح شرطى باب زنزانته وقال «قشرة رغيف وماء للرقم ٢٩٢»، ودفع بقشرة خبز وكوب ماء فى يد السجين. واختفى الشرطى بسرعة البرق قبل أن يتمكن الصبى من التحدث إليه.
وبعد بضع ساعات وصل رئيس الشرطة وهو يحمل بعض الأوراق. كان سلوكه مهذبًا جدًا. وبسرعة وقبل أن يتفوه بكلمة قال الصبى «أريد ان أرى عمتى. هل جاءت لتسأل عنى؟».
انحنى ورد «كانت هناك سيدة تسأل عن كلب منقط».
ورد الصبى «إنها عمتى. هل سألت عنى؟».
فانحنى رئيس الشرطة وقال «نعم وأخبرناها أنك فضلت المحاكمة».
فرد الصبى «ولكن هناك سوء فهم».
وقال رئيس الشرطة «سيتضح الأمر أثناء المحاكمة. وجئت لأبلغك أن محاكمتك ستعقد خلال ثلاثة أشهر. وحتى ذلك الحين سنحتجزك».
وقال الشاب بسرعة «هذا غير قانونى. من حقى المثول أمام القضاء قبل توقيفى».
انحنى الشرطى وقال «قانون لاغ».
وهكذا قضى الشاب ذو الثمانية عشر عامًا الأشهر الثلاثة وهو ينظر إلى السماء فوق السقف من وراء قضبان الشباك العالى. كانت جدران زنزانته مطلية بلون زهرى يميل إلى الرمادى، وكانت هناك مئات من الفئران. وعندما أخبر عمته فيما بعد عن الفئران قالت له «هذا مستحيل. فالشرطة لا يمكنها إلا أن تحافظ على بيئة نظيفة» ربما ولكن كان هناك مئات من الفئران.
وكما كان متوقعًا أدانت المحكمة الشاب. وأدلت عمته، التى كانت قد وجدت كلبها فى تلك الأثناء، بشهادتها قائلة إنه غير قادر على ارتكاب مثل هذه الجريمة التى لا توصف لأنه غير قادر على فعل أى شىء تقريبًا. ولكن المحقق أشار إلى أن شهادتها مشكوك فيها أولًا لصلة القرابة، وثانيًا من المستحيل الاعتراف بشهادة لها صلة بجريمة لا توصف وسيكون من الصعوبة البالغة التحدث عنها. كان للقاضى وجه مربع وعيناه مغطاة بنظارات لها عدسات مقعرة. وهيئة المحلفين كانت من رجال الشرطة. وتساءل الصبى فى النهاية إن كان عليه أن يصرخ بأعلى صوته فى المحكمة «أنا برىء من ارتكاب هذه الجريمة التى لا توصف» ولكن ربما لن يصدقه أحد.
تم إرساله إلى مناجم الملح فى مكان ما لمدة ثلاثة أشهر. ومنذ أن عاد وعمته لا تتوقف عن القول «كان من الممكن تفادى كل ما حدث لو أنك تعاملت مع الوضع برباطة جأش». وعلى كل حال هذا ما حدث وما زال لدى ابن أخيها مشكلة مع أقسام الشرطة.