رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبدالشافى يكتب: نصيبي من التركة الملعونة


التركة الملعونة.. تلك التى أغرقتنا جميعًا فى الوحل وأفقدت المهنة جلالها وهيبتها وجمالها، تركة الإعلام الثقيلة التى نحملها على ظهورنا ونلقى بعضًا منها على كاهل جيل جديد، وكلنا يحمل إرثًا لم نحصد منه سوى وجع القلب وزفرات الأسى والحزن، فى حين ينعم أصحاب التركة المعلونة بذهبها وفضتها ونسائها وقصورها وفيلاتها من الساحل الشمالى حتى قلب باريس وأطراف نيويورك.

قرأت كتاب «التركة الملعونة» باستمتاع شخصى، فهو تتويج لجهود كثيرة سعت لتقصى حقيقة الإعلام فى مصر منذ ثورة يناير وما تبعها حتى اليوم، وإضافة برؤية أستاذ جامعى يقوم بتدريس المهنة لطلاب كلية الإعلام، ويمتلك من التجارب المهنية ما يؤهله ليكون شاهد عيان على عشرات التجارب التى شارك فى إصدارها منذ منتصف التسعينيات وحتى اليوم، وتحققت رغباتى فى التشفى من هؤلاء الذين تركوا لنا كل هذا الميراث المؤلم، ولا أعرف ماذا سيفعل محمد الباز فى ثروته الضخمة بعد أن طالب الجهات الرقابية بمراجعة ثروات الإعلاميين فى مصر؟!، هل سيهرب بالمليارات ويتركنى أضرب كفًا بكف؟، عمومًا ساعتها يحلّها ألف حلال، فهو لا يتوقف عند هذا الحد، بل يقترح أن يقدم الإعلاميون إقرار ذمة مالية بممتلكاتهم وثرواتهم، وأن يشرحوا للناس كيف حصلوا عليها، ويسهموا كمان بجزء منها فى التبرع لبرامج الحماية الاجتماعية التى يستفيد منها الفقراء ممن صدقوهم يومًا!.
ده كلام والنبى؟ هى كام يعنى ثروات الإعلاميين دى عشان ده كله؟!.
على شاشة التليفزيون المصرى، كان النجم اللامع محمود سعد يتحدث بنشوة عن انتصار ثورة يناير، وكيف أنه اعتكف فى بيته ورفض المشاركة فى قتل الثوار!، وهنا ظهر أنس الفقى، وزير الإعلام الأسبق، فى مداخلة شهيرة كان الغرض منها فضح محمود، الذى لم يكن ثائرًا كما يقول أنس فى مداخلته: «كان يجلس بالبيجامة فى بيته يشاهد ما يحدث فى التليفزيون الذى يتحدث على شاشته الآن، بينما كان هناك من يحمون ماسبيرو الذى كان مهددًا»، ولم يكن لكل كلام أنس آنذاك أى مصداقية أمام نجومية محمود سعد، حتى نطق أنس بالرقم الذى يتقاضاه محمود سعد شهريًا «٩ ملايين جنيه»!، وارتبك محمود سعد، وقال إنه لا يتقاضى هذا الرقم من تليفزيون الدولة، ولكن من الإعلانات التى يحققها برنامجه.
بعد ثورة يناير، فوجئ جمهور الميديا فى مصر بصحفيين عاشوا فى ثوب المعارضة يدخلون شركاء فى ملكية قنوات فضائية!، وتساءل كثيرون: من أين لإبراهيم عيسى مثلًا بأموال تتيح له الدخول شريكًا فى قناة التحرير، وهو الذى عاش مطاردًا فى عصر مبارك؟، وكيف للسيدة لميس الحديدى أن تصبح بنت الثورة وتوقع عقودًا بالملايين تضيفها إلى ملايين حملة مبارك الانتخابية التى كانت واحدة من أشهر قياداتها فى ٢٠٠٥؟، وما المنطق المهنى والإعلامى الفظيع الذى يجعل مسيرة عمرو أديب تبدأ من قطار مبارك وتمضى مع ثورة يناير وتنطلق بعد ٣٠ يونيو لتصل مؤخرًا إلى توقيع عقد يتجاوز ٣ ملايين دولار مع «إم بى سى».
هكذا يقدم محمد الباز فى كتابه «التركة الملعونة.. كتاب الأسرار» الصادر عن دار «كنوز» إجابات وافية، ليست عن أرقام الثروات وكيفية الحصول عليها، ولكن لتشخيص حالة التردى الإعلامى التى وصلنا إليها، فالكل غاضب من المهنة والإعلام والكل كليلة، فأين الداء كى نبحث عن العلاج؟ وما نصيبك ونصيبى من هذه التركة التى تفرقت ثرواتها بين زيد وعبيد ونطاط الحيط!.
إنها رحلة الخيال والأسطورة التى يتتبعها محمد الباز، والتى كان شاهدًا على مجرياتها، رحلة سريعة بدأت قبل ثورة يناير بسنوات، وما زالت تمضى وتتعفن إلى اليوم، رحلة جعلت الإعلاميين ينافسون رجال الأعمال الكبار فى حجم ثرواتهم، رحلة السقوط والانهيار التام للمهنة التى نتساءل اليوم عن السبب وراءه، ونحن نعرف الحقيقة، ولكن لا نجرؤ على قولها، لقد صاغ هؤلاء الإعلام المصرى على هواهم، تحول كل إعلامى بـ«تلاتة صاغ» إلى كيان يوجه الرأى العام ويتبنى القضايا التى تروق لميول صاحب القناة، رحلة بدأت منذ تطايرت مليارات صلاح دياب وأحمد بهجت ونجيب ساويرس فى هواء القاهرة، لشراء الصحفيين وتحويلهم إلى منصات شخصية للدفاع عن مصالحهم والتشهير بخصومهم.
كان عادل حمودة قد فتح ملف رجل الأعمال أحمد بهجت، صاحب قناة «دريم»، فى صحيفة «صوت الأمة»، فأعد أحمد بهجت مجموعات فيديوهات قذرة جمع خلالها كل ما يتداوله الوسط الصحفى عن عادل حمودة، وبدأ فى إذاعتها بكثافة ضاربًا عرض الحائط بخريطة القناة، ومتجاهلًا جمهورها الذى لا علاقة له بأزمة رجل أعمال مع صحفى، وبالطبع جهّز عادل حمودة ومحمد الباز عددًا كاملًا من الصحيفة عن بهجت، لكن إبراهيم عيسى الذى كان يقدم برنامج «ع القهوة» على شاشة دريم تدخل فى اللحظات الأخيرة وطلب من أستاذه «سابقًا» عادل حمودة أن تتوقف الجريدة عن النشر مقابل أن يتوقف بهجت عن إذاعة الفيديوهات، وكانت النتيجة المتوقعة فقد توقف عادل عن النشر، واستمر بهجت فى إذاعة الفيديوهات، ليشارك عيسى فى خداع أستاذه لصالح ولى نعمته!.
وهكذا فعل يسرى فودة مع حازم عبدالعظيم لصالح نجيب سايروس، كان حازم عبدالعظيم بعينيه الزرقاوين شابًا لامعًا بعد ثورة يناير وتم ترشيحه وزيرًا للاتصالات، فانزعج بعض رجال الأعمال ومنهم نجيب ساويرس صاحب قناة «أون تى فى»، وليلة الترشح وقبل أن يتوجه حازم ليحلف اليمين فى يوليو ٢٠١١ كان يسرى فودة يطل من الشاشة ببرنامجه «آخر كلام» ليستعرض الأوراق التى تسربت عن علاقة حازم بشركات إسرائيلية.. وشكرًا.. مهما كانت طريقة التناول المهنى أو البتنجانى، فقد تم تدمير الهدف بقبضة المناضل الذى حقق رغبة مالك القناة، وجعل حازم عبدالعظيم يبكى على صفحته الشخصية بموقع التواصل الاجتماعى عاتبًا على يسرى فودة السقوط المهنى الذريع.
سنوات قليلة جعلت الإعلام يدخل هذه الدائرة من الفساد المتغطى بالنضال والشرف المغروس فى الوحل والقرف والنتانة، لا يجلس صحفى إلى آخر إلا ويلعنان المهنة وسنينها السوداء، كيف وصلنا للوحل وكيف نخرج؟، أين ذهب حزن منى الشاذلى بعد خطاب مبارك العاطفى حين اختنقت بالدموع وردت السلام على مبارك: «وعليكم السلام يا سيادة الرئيس»، وأين ذهبت دولة الإخوان التى بشّرت بها فى برنامجها الـ«١٠ مساء»، وفتحت الشاشة بأوامر مالك «دريم» لأعضاء الجماعة للضغط على الدولة التى كانت تطالبه بمديونيات ضخمة؟، وكيف تضخمت ثروات السيد يسرى فودة وأصبح حكمدار الثورة والمهنة، وهو الذى شارك منى الشاذلى دموع الشجن على مبارك ليلة الخطاب العاطفى!.
إلى أين مضى قطار الكذب والتدليس وابتزاز الدولة بشعارات النضال والنقاء الإعلامى؟! هنا فى هذا الكتاب إجابات بالوقائع والأحداث وتوقيت وقوعها باليوم والساعة والثانية، هنا مساحة واسعة جدًا للتفشى فى تلك البلالين المنتفخة والتى لا تتوقف عن الحديث باسم الإعلام والمهنة وقواعدها التى ستمنع نشر أى حرف عن كتاب «التركة المعلونة» الذى يكشف فى تسلسل واضح ومحدد كيف وصلنا إلى هذا المنحدر، ولو كان محمد الباز مكان أى رئيس تحرير منهم لاتخذ الموقف نفسه، فهو من الكتب الممنوع تداولها إلا فى السر، الكل يتلهف لشراء نسخة ليرى صورته التى يداريها عن الناس، فكيف يسمح بنشرها على الناس وكيف لا يراعى مشاعر فلان وعلان وترتان؟ الجميع يلف فى كنف الجميع والمصالح واحدة وإيد ده فى جيب ده، ومحمد الباز لن يهتم بالأمر أصلًا، ولكننى أسجل هنا فقط أن هذا الكتاب الذى يقدم تشريحًا كاملًا وتشخيصًا وافيًا للمهنة وانهيارها لن يجرؤ أحد على استعراضه أو الحديث عنه رغم أن مؤلفه إعلامى ورئيس تحرير صحيفة يومية إلى جانب منصبه كرئيس مجلس إدارتها، سترى الغلاف وبعض الكلمات القليلة لكن الكتاب سيدخل دائرة الحصار ليظل وثيقة على ما جرى فى الصحافة والإعلام خلال عهد مبارك وما تبع ثورة يناير من صعود الأنصاف والأرباع وكلاب السكك التى ما زالت تنبح.