رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التفكير فريضة إسلامية



رحم الله المفكر العملاق عباس العقاد، مات وترك لنا فكرًا وعلمًا وفلسفة وإبداعًا، مات الذى كتب العبقريات، ولكن أحدًا لم يكتب عن عبقرية العقاد، نعم أخذ بعضهم الماجستير أو الدكتوراه فى منهجه وفلسفته وفكره وشعره، ولكن لم يجد العقاد عبقريًا يكتب عن عبقريته، مثلما كان هو عبقريًا يكتب عن عباقرة، تذكرت العقاد وأنا أقرأ للمرة العاشرة كتابه العظيم «التفكير فريضة إسلامية»، وقد دفعنى هذا الكتاب منذ سنوات طويلة إلى التفكير فى كل القضايا، بحيث لا أجعل أبدًا من أى فكرة إنسانية ثابتًا لا ينبغى تعديله أو العدول عنه أو الإضافة إليه، كل ما أنتجته قرائح البشر هو من بنات أفكارهم، وعقل الإنسان يتطور من جيل لجيل، ومن قرن لقرن، ولو نظرنا لبديهيات زمننا هذا ثم حملناها وعدنا بها إلى ألف عام مضت لكانت فى أزمنتهم القديمة من الخوارق والمعجزات.
أما طه حسين فقد قدم لنا فى كتابه الرائع «فى الشعر الجاهلى» بدايات فلسفة الشك التى وضع قواعدها الفيلسوف الكبير رينيه ديكارت، أبوالفلسفة الحديثة، وبالقطع ليس هو الشك العدمى الذى يقودنا إلى اللاشىء، ولكنه الشك الذى يقودنا إما إلى الإثبات، وإما إلى النفى، وللدكتور الفيلسوف محمد عثمان الخشت، رئيس جامعة القاهرة، مؤلف قيم عن تلك النظرية، انتقد فيه ديكارت، الذى وضع منهجه ثم خالفه أثناء التطبيق.
ولأن إنتاج المعرفة هو أحد مسارات العقل البشرى، لذلك كان كل همى أن أفكر خارج الصندوق التقليدى، الذى تعودنا على الجلوس داخله، حتى أصبح هو الذى يشكل طريقة تفكيرنا، وكان من أسفى أن رأيت أجيالًا من المسلمين ظلوا يفهمون الإسلام على أنه دين الفتوحات والغزوات والقتل والسبى، وقد أيقنت أنك يا صديقى لن تعرف الله من تلك المفاهيم المغلوطة التى ينسبها بعضهم له، لن تعرفه من السيوف التى تقطع الرءوس باسم الدين، ولن تراه فى الدماء التى تسيل بغير حساب، أولئك الذين يجهلون الله ربنا، يعبدون بسفك الدماء ربًا ليس هو الله، ويتقربون بالقتل لرب ليس هو الخالق المبدع الرحمن الرحيم، أما الله ربنا فهو الحكيم، أفعاله سديدة، وخلقه متقن، الله ربنا طلب منا أن نسير فى الكون ونتفكر فى خلق السماوات والأرض، طلب منا أن ننظر لآيات الله فى الكون، والآيات التى فى أنفسنا، فإذا تفكرت مثلًا فى آية الليل والنهار وتعاقب الزمن لأيقنت أن هذا الكون خلقه قادر ومبدع سبحانه، وإذا أعملت فكرك فى ارتباط المكان بالزمان لشاب شعرك من دقة هذا الخلق الذى لا يمكن أبدًا أن يكون ضربة عشوائية أو صدفة كونية.
فالله خلق الزمن، وخلق المكان، وأعطى لكل ناموسًا، يخضع الزمن لناموسه ويخضع المكان لناموسه، ولكن خالق الناموس لا يخضع لما خلقه، خالق الزمن لا يمر عليه زمن، خالق المكان لا يحتويه مكان، هو فوق، ولكن فوقيته فوقية مكانة لا مكان، خلق السماوات والأرض فى ستة أيام ثم استوى على العرش، مرَّت الستة أيام على المخلوق لا على الخالق، إنما أمره بين الكاف والنون، ولأن المخلوق خاضع لناموس خالقه، فقد مر على السماوات والأرض ستة أيام إلى أن تشكلتا، ولكن هذه الأيام لم تمر على من شكلهما وخلق ناموسهما «لا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل فى فلك يسبحون» فإذا خرجنا من نطاق مكانية الشمس والقمر، لن يمر علينا ليلهما ونهارهما، ينحسر عنا زمنهما، وإذا دخلنا إلى مكانية أخرى، مر علينا زمن هذه المكانية، وخضعنا لناموسهما.
هل معنى هذا أن الدنيا فيها أزمنة أخرى وأمكنة أخرى؟! يظل عقل الإنسان مقصورًا بنسبيته على استيعاب سرمدية هذا الكون، نعم يا صديقى للكون الذى نعيشه أزمنة أخرى وأمكنة أخرى، ونحن نعيش فى معية أحد الأبعاد الزمنية لهذا الكون، فالله سبحانه وتعالى قال لنا «تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شىء قدير * الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور * الذى خلق سبع سماوات طباقا ما ترى فى خلق الرحمن من تفاوت، فارجع البصر هل ترى من فطور» ثم قال سبحانه «ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين» وفى سورة الجن قال «وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسًا شديدا وشهبًا * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابًا رصدًا».
سأطلب منك يا صديقى أن تعود لقراءة هذه الآيات مرة أخرى، اقرأها بتمهل وروية، لا تتسرع، أعَمل عقلك فى كل كلمة من كل آية، ستجد أن الله قال لنا فيها إنه خلق السماوات والأرض طباقًا، وطباقًا تعنى متداخلات، حتى إن هذا التداخل لا يترك لك مجالًا لاكتشاف الفروق بين الطبق والآخر الذى انطبق عليه، لم يقل لنا إنه خلقها طبقات، أو متطابقات، فالطبقات جمع طبقة والطبقة تعلوها طبقة ولا تتداخل فيها، فيكون بين الطبقة والطبقة تفاوت، والمتطابقات، أى المتشابهات والمتساويات، وما لهذا قصد، وما لذلك خلق، ولكنه خلقهن طباقا، إذ لا يوجد بينهن فروج أو تفاوت، لذلك قال ربكم تأكيدًا لهذا «فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير»، والفطور هو الفارق بين الطبق وما انطبق عليه، إنك لن تجد فارقًا أبدًا، ولو كان هناك فارق لكانوا طبقات.
قد تسألنى يا صديقى فتقول: هل لما تقول علاقة بالآية «يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا. لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ».. يا سلام يا صديقى، لقد نفذت إلى جزء من الحقيقة، فالنفاذ هو الاختراق، والاختراق هو خروج الشىء من شِّق إلى آخر، والأقطار هى الجوانب، والسلطان هنا هو قدرة الله التى يعطيها من يشاء من عباده، ولك أن تقرأ سورة الرحمن كلها، فإذا قرأتها بروحك فإنها ستقودك إلى حقائق يعجز عنها العقل، ستقرأ عن شواظ من نار ونحاس تمنع النفاذ والاختراق، وستقرأ عن السماء التى حين تنشق لينفذ منها من أراد الله له أن ينفذ سيكون هذا الانشقاق فى شكل ولون الوردة الحمراء «وردة كالدهان».
ولكننى أعلم أنك ستعود إلى كتب التفاسير القديمة وستقول لى إنك قرأت فيها أن الآية الكريمة «فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان» هى خاصة بيوم القيامة، إذن دعنا يا صديقى نتفق على بعض الأشياء، منها أنه لا يوجد شىء اسمه تفسير للقرآن، فالله نزَّل القرآن ولم ينزل معه تفسيرًا له، وإنما ما تقول عنه إنه تفسير هو مجرد رأى لصاحبه، مثلما أقول لك الآن رأيى، وهذا الرأى يُنسب لى ولا يُنسب لله، كما أن سياق الآيات يدل على أن الله يتحدى خلقه فى الحياة الدنيا وليس فى يوم القيامة، فليس فى القيامة تحدٍ ولكن تصدٍ، إنما التحدى يكون فى حياة التكليف لا فى حياة الحساب، ووردة كالدهان هذه هى الشكل الذى ستكون عليه السماء التى ستنشق وتنفرج لينفذ منها الإنسان، والمعنى هنا أنها ستكون منشقة على شكل وردة حمراء، وستكون مدهونة بشىء كالدهن أو الزيت يساعد على الانزلاق والنفاذ، واعلم أن النفاذ لا يكون إلا من مكان لمكان آخر، وطالما نفذ إلى مكان آخر فإنه سينفذ إليه ليجد نواميس أخرى للزمن، فلكل مكان حركته الخاصة به التى يتولد عنها زمنها.
ولك يا صديقى أن تخلو بنفسك وتتأمل آيات القرآن وما قاله الله عن الجن، وقد جعل الله من النجوم رجومًا لهم، إذ كانوا يجوسون بين السماوات المنطبقات فيخترقونهن طبقًا عن طبق، وحين يخترقون يتسمعون لأحداث وأخبار أزمنة لم تأت بعد «وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع» فأوقف الله هذا التسمع بأن وضع حرسًا وشهبًا وجعلها رجومًا للشياطين التى تريد الاختراق، فإن تعدت على خاصية خلقها وانطلقت، احترقت، وفنيت قبل أن تصل لمبتغاها، ولكن الله سبحانه أعطى لمن يشاء من خلقه علمًا، يركب به طبقًا عن طبق، وينتقل زمنًا عن زمن، وأقسم الله على ذلك بقوله «فلا أقسم بالشفق* والليل وما وسق* والقمر إذا اتسق* لتركبن طبقًا عن طبق» أى ستخترقون هذه الطباق، وتنتقلون من طبق لطبق آخر يخضع لنواميس أخرى، وقد أقسم الله هنا على ذلك بدلائل المكان والزمان، الشفق، والليل، والقمر.