رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صورةٌ حديثة لبريهان

جريدة الدستور

فى اتصالها الأول قالت إنها بريهان، من طرف «ملاك منسى»، وفى اتصالها الذى لم أرد عليه ولم أكن أعرف أنه الأخير قالت بصوت حزين ومحبط: «بريهان». بريهان فقط، كتوقيع صوتى فى نهاية رسالة مسجلة. الصوت الأول الذى لم أكن قد انتبهت بعد إلى أنه ينطوى على ثقة ورقّة وثبات جعلنى أرد بآلية: أفندم؟، «أفندم» مقتضبة ورسمية كأنها من «خدمة العملاء»، «أفندم» لا تلائم مرونة الاسم، ولا حروف «ملاك منسى» الممدودة إلى أقصاها، «أفندم» تقول بلا مواربة: اختصرى، حتى إنها صمتت للحظة، وعرضت معتذرة أن تتصل فى وقت آخر لو أن الوقت غير مناسب، فقلت بإيقاع أهدأ: «لا.. أبدًا.. اتفضلى»، وكنت قد تذكرت فى فترة الصمت أننى قابلت الشخص الذى هى من طرفه صدفة فأوصلته إلى مكان قريب. منظره وهو يفتح الباب ويعرفنى بنفسه ويجلس بجوارى يشير إلى أصول شامية، مفرداته فصيحة ومنتظمة ومتسلسلة، ولاح لى وهى تعتذر أننى سمعت من قبل مثل هذه النبرة التى تنطوى دائمًا على اعتذار مسبق عن إضاعة وقتك، وأن «بريهان» اسم مكتمل، كأنه جملة مفيدة، حتى قبل أن تخبرنى أنه يعنى «الأميرة الملاك» بالفارسية، وكنت قد لاحظت من قبل أن «ملاك منسى» اسم مكتف بذاته، كأنه على صلة بالكتابة أو النضال السياسى، أو كأننى قرأت اسمه فى ندوة ثقافية، وحين سألته عن طبيعة عمله، ذكر مجالا بعيدا، فقلت: «غريبة.. مع إن الاسم وحده يليق بواضع قواميس أو روائى، فهز رأسه بالنفى قائلا إن «بريهان» هى التى لها فى هذا المجال. بريهان فحسب، كأننى أعرف بشكل مسبق من تكون، وطلب رقمى ما لم يكن فى الأمر تطفلا، فأمليته له دفعة واحدة، وبينما هو فى منتصفه فوجئ باقتراب بوابة ١٢، فأشار إليها قائلا «أشكرك» مركزا على الحروف، ومعبرا عن امتنانه بهذا اللقاء القصير جدا ورفع يديه بالتحية، مشيرا إلى أننا سنلتقى لا بد، أو على الأقل سنتواصل، ولم يكن قد أتم تسجيل الرقم، فشككت فى الأمر، خاصة حين بالغ فى الضغط على حروف كلمة أشكرك، وأشار بالسبابة إلى الهاتف، وبالفعل لم يحدث أن اتصل.
مع تليفون بريهان لاح لى مشهد ملاك كاملا، وحز فى نفسى أننى أسأتُ الظن به، سألتها عنه، فقالت: «الحمد لله.. أحسن دلوقت» ففهمت أنها ربما تتحدث عن وعكة أصابته، وحدث صمت، اعتذرتْ بعده أنها عرفت من ملاك أننى صديقه وأننى كاتب، قلت: «مش قوى!»، فاستسمحتنى إن لم أكن مشغولا أن تسمعنى مقطعا من قصيدة، فقلت «بكل سرور»، قلتها بأريحية، لأننى كنت أريد أن أتعرف على مستواها، كما كنت أريد أن أعرف المزيد عن ذلك الرجل الذى لمحته يسير فى طريق طويل دون أن يتلفت كل فترة إلى سيارة آتية، ولما توقفتُ إلى جواره، قال وهو يبتسم بأدب إنه لا يريد أن يعطلنى. أومأتُ إليه، فامتدت يده إلى مقبض الباب، وكشفت ملامحه عن سن أكبر مما توقعت خاصة حين شكرنى وهو يغلق الباب معتذرا عن أنه تسبب فى عطلتى، ولما سألته إلى أين؟، قال بهدوء: «أى مكان قريب»، وهو الموضع الذى أخذنا الكلام فلم ينتبه إلى اقترابه إلا وهو يسجل رقم هاتفى.
المقطع الذى سمعته كان أقرب إلى القصة منه إلى القصيدة، فاقترحت أن تزودنى بنماذج أخرى على «الواتس» على أن أخبرها برأيى كاملا بعد أسبوع، فشكرتنى بشدة، لكن الهاتف رن فى نفس الليلة، وحين تعرفت إلى الصوت بادرتها بالقول إن «الحاجة وصلت.. شكرا»، فأوشكت المكالمة أن تنتهى قبل أن تبدأ، لولا أنها شكرتنى وقالت إنها كانت تريد التأكد فقط من أنها وصلت، وأكملت معتذرة إنها تعرف أن موعدنا بعد أسبوع، لكنها فرحة لأنها تتحدث إلى روائى له كتب وحاصل على جوائز، فعرفت أنها دخلتْ على محرك جوجل، فقطعتُ استرسالها وأجملتُ لها رأيى بإيجاز قائلا إن ما أرسلتْهُ واعدٌ؛ قصص قصيرة مكتملة الأركان، لا ينقصها سوى بعض الرتوش، وأعطيتُ أمثلة، فتهدج صوتها من الفرح وسألتنى بإلحاح: «يعنى مسيبش الكتابة؟» قلت: «هل قلت ذلك؟» فاعتذرت عن ارتباكها، لأن كاتبا نصحها بالابتعاد عن الكتابة والبقاء فى الرسم، وفنانا تشكيليا نصحها بالإقلاع عن التصوير والبقاء فى الكتابة، ففهمتُ أن البورتريهات المرفقة مع النصوص لها، فأخبرتها أن كلامى واضح، خاصة لو اعتنت بالتفاصيل الصغيرة، فبدت ممتنة، ومتعجلة، تتزاحم الكلمات على شفتيها لتقول أكبر قدر من الكلام فى أضيق وقت، فتناثرت فى خطابها الفصيح والمرتب تعبيرات أجنبية لا تشى باستعراض بقدر ما تشير إلى طبقة اجتماعية ومستوى معين من التعليم، سألتُها إن كانت تعمل، فقالت: مهندسة، فأثنيت على المستوى الناضج الذى يعد بتقدم مذهل لا سيما مع وجود هذه الخلفية الفنية، وأشرت إلى أدباء يمكن أن تُحمِّل كتبهم من الشبكة العنكبوتية، وندوات أدبية للتردد عليها فى وسط البلد اختصارًا للطريق، وحين لمحتْ فى نبرتى رغبة فى الإنهاء، عبَّرتْ مجددا عن أسفها أنها عطلتنى، ووعدت بالشروع فورًا فى تنفيذ ما أوصيت به، إلى أن نتناقش فى الموعد الذى حددتُهُ، ولم نتطرق فى مكالمة امتدت لخمس وأربعين دقيقة إلى رجل كان سائرًا للأمام فى طريق طويل، تمرق بجواره السيارات المسرعة دون أن ينتظر أيا منها، الرجل الذى لاح لى أنه غير قابل للمرض، وزنه لا يتجاوز الخمسين كيلو، رشيق، ذاكرته حادة، أسنانه بيضاء ومكتملة، يؤكد أننا سنتواصل دون أن أعرف من أين يأتى بهذه الثقة، رجل فى الخامسة والسبعين ضبطتُ نفسى مفتونا بشخصه، خاصة عنايته بتلميع الحذاء والجورب النظيف.
لا أذكر أننى طلبتُها، هى التى تتصل دائما، وحين أرسلتْ مع النص صورة لها بصحبة ابنتها، علقتُ على النَّص، وتركتُ الصورة حتى سألتنى إن كنت رأيتها، فأجبتُ بأن البنت أقرب إلى قطة صغيرة منها إلى طفلة، بريئة كقطعة من خير خالص لا شية فيها، وأحجمت عن الكلام عن الأم التى كانت مكتملة الأنوثة وهى تحيط الطفلة بابتسامة وجلة وذراعين نحيفتين لا تتناسبان مع صدرها الكبير، ودرجة من الخجل تدفعها لعدم التحديق فى الكاميرا، البلوزة تميل إلى الفوشيا، خفيفة، بكم لا يصل إلى معصم تشير سبابته إلى الكاميرا، والبنطلون جينز على حذاء رياضى غالبا وردى، والشعر حول الرقبة أسود، ونظرتها إلى الكاميرا من تحت لتحت، إما للشمس الساطعة، أو لخجلها من أنوثة مفرطة حاولت التخفيف من بذخها بالانحناء أكثر مما يجب على الطفلة والإيعاز إليها بأن ترفع عينيها نحو الكاميرا، كانت فى الصورة تتجاوز الثلاثين بقليل، وهو العمر الذى قدَّرتُه تقريبًا من عام التخرج الذى سألتها عنه، كما يتناسب عمر الطفلة الصغيرة مع زيجة قصيرة فاشلة، ثم نصحتها بكتابة قصة عن امرأة وطفلة تعيشان وحيدتين بلا رجل، على ألا تهمل المفارقة بين وعى الطفلة ووعى الأم، فقالت إنها ليس لديها بنات، كما أنها لم ترزق بطفل، سألتها متشككا: «والطفلة؟»، فضحكت وقالت: «هذه أنا.. عندما كنت فى الرابعة» فاعترانى ذهول لأننى لم أنتبه إلى أن الصورة قديمة نسبيا، حتى بعد أن كتبت القصة، كما رأيتها، وامتد النص إلى تسعة نصوص من وحى ملاحظاتى، غطت قصتها من الزواج إلى الانفصال، فيما كنت أسعى إلى معرفة أين يكمن الخطأ فى العلاقة بين صيدلى بشركة استثمارية، ومهندسة نظيفة وجميلة لكى تنتهى بالانفصال، وتمنيت لو ترسل صورة حديثة للأم التى فى الصورة، لكننى فهمت أنها ماتت بعد التقاط الصورة بعام، وأنها آخر صورة جمعتهما.
«اليوم اكتملت القصة.. بريهان» فى اتصالها الأخير كان هاتفى خارج الخدمة، والرسالة الصوتية مختزلة، لا يمكن فهم جوهرها، ولم يكن بوسعى أن أسأل والرسالة صوتية إن كانت تعنى أنها تعرضت لمكروه، أم أنها أنجزت قصتها الأخيرة؟ انقطاعها عن الاتصال جعلنى أظن أول الأمر أنها لعبة، التظاهر بالغياب لجذب الانتباه، لكننى بعد أسبوع من التحديق فى شاشة الهاتف، بادرتُ بالاتصال، فوجدته مغلقا بشكل دائم، ولا يوجد على حساب «الواتس» رسائل حديثة، فانتابنى الفزع، وأعدت الاستماع إلى نص الرسالة عشرات المرات، وكان صوتها يأتى فى كل مرة حزينا ومقبضا ومختصرا لا يتناسب مع فرح كاتبة بالانتهاء من قصة حتى ولو كانت المتممة لمجموعة، إذ يخيل إلىّ أنها تدمع، أعيد الاستماع فأجد صوتا كأنه نشيج وأنفاس خارجة من صدر مضغوط، خاصة مع التوقيع الصوتى المختزل، تلك المجموعة التى كنت أريد أن تضع لها عنوانا «صورة حديثة لبريهان» فيما يوشك الجنون أن يصيبنى كلما جال بخاطرى أن مكروها أصابها هكذا دون أن أتوقع حتى حدوثه. لا أذكر على وجه التحديد متى اختفت من ردودى كلمة «أفندم؟» التى تبتر المكالمة قبل أن تبدأ، ولا متى تلاشى ضجرى من اتصالاتها المتكررة، ولا متى صرت أنتظر بشغف أن يضىء اسمها شاشة الهاتف؟ ربما منذ تحسنت فى الكتابة بشكل مذهل وغلبت على قصصها مسحة من الأسى الشفيف، وأوشكت أن تنجز مجموعة قصصية يغلب على أجوائها الشعور بالوحدة، والاستئناس بصوت رجل عبر التليفون حتى لو وصل فارق السن بينهما إلى عشرين عاما، وهو ما دفعنى إلى عدم التورط فى أى وعد، وإبقاء العلاقة فى إطار لا تغادره؛ الإدلاء بالرأى على المستوى الفنى، والنصائح التى قد تمتد بحكم السن والخبرة إلى الحياة بوجه عام، مع التأكيد فى كل مرة على أنها غير ملزمة، ولها حرية الاختيار فى النهاية، خاصة بعد أن صارت مكالماتها معتادة، وشبه يومية، وكلامها منتظما، وتحسنت فى الكتابة، وتغلب «الفوشيا» على باقى الألوان فى لوحاتها، ولم تعد تتعثر ومن ثم لا تعتذر فى بداية المكالمة، بل تدخل فى الموضوع وتخبر عن أشياء وتفصيلات صغيرة فى أحاديث تطرقت إلى كل شىء، حتى النكتة صارت مادة لها موضعها فى مكالماتنا اليومية، حتى عرفتها من الداخل، وحين سألتنى فى قصتها الأخيرة هل يكون مقبولا والمدينة التى يعيش فيها البطلان واحدة أن يلتقيا فى مكان عام، مول أو متجر أو مقهى ثم يرتطما دون أن يعرف أحدهما أنه ارتطم بالآخر؟ فقلت على مستوى الواقع يمكن، لكن على المستوى الفنى، يجب أن يشعر كل منهما فيما يشبه الحدس أنهما ارتطما بالآخر، والأفضل أن يشعر أحدهما أنه سيرتطم بالآخر عما قريب.
متى اهتديت إلى هذه الفكرة واكتشفت أنه من العبث أن يخبرنى ملاك ابن الخامسة والسبعين من تكون بريهان مهما انتظرته فى الطريق الطويل قبيل الغروب بحذاء نظيف وقميص نصف كم على بنطلون صوف، وحزام محكم، لأن الرجل المسن فى قصة «البوابة الأخيرة» والذى كان فى مقام جدها لأم، دخل إلى «رعاية الحالات الحرجة» ثم خرج منها بكل بساطة، لكن على ظهره؟ متى اهتديت إلى الفكرة وتليفونها مغلق دائما، فصرت أتجول فى نادى المدينة، وأتفقد المولات والمطاعم والكافيهات محدقا فى وجوه نساء تجاوزن الثلاثين بقليل، وحيدات، بشعور ناعمة جدا لا تحتاج إلى وقت لتسريحها، بيض لا يضعن كريمات مفتحة للبشرة، يفضلن القهوة ولا يأتى الشاى على بالهن إلا مرة واحدة كل عام، يفرغن فى خمس دقائق من أى وجبة حتى لو كانت رئيسية، تغلب الفوشيا على ملابسهن القطنية مقاس «L»، وقد لا تتدلى صلبان ذهبية على صدورهن الكبيرة نسبيا، على بناطيل جينز محكمة على أحذية جلدية مقاس ٣٧، أو٣٨ فى الأحذية الرياضية، غارقات فى التأمل والرصد بعد أن ملن إلى السرد وانصرفن عن كتابة ما كن يعتقدن أنه شعر، أبحث بدأب عنهن، وأفتعل الارتطام بهن لعل واحدة تنتبه فى نفس الوقت، ثم تلتفت فيتواكب اعتذارنا فى نفس اللحظة التى يكتشف فيها كل منا أنه يقف وجها لوجه أمام الآخر.