رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«المبروك ولد سيدى عبدالقادر الجيلانى»

جريدة الدستور

منذ اليوم الذى أعلنت فيه الزغاريد ودماء الأضاحى عن ولادته المباركة، وحتى اليوم الذى اختفى للأبد وهو لم يكمل سنته السابعة بعد، لم يحدث وأن رأى أحد منّا وجه عبدالقادر ابن عمتى أمّ الخير مكشوفًا.
نناديه جميعًا بالمبروك، بالألف واللام، وليس «مبروك» حاف، ولا بد حين يكون بيننا أو قربنا أحد من عائلته أن نضيف «ولد سيدى عبدالقادر»، فننطق اسمه الغريب كاملًا، «المبروك ولد سيدى عبدالقادر»، نسبة إلى الولىّ الصالح الأشهر فى كلّ البلاد التونسيّة «الشيخ سيدى عبدالقادر الجيلانى»، رضى الله عنه، وأسكنه فسيح جنانه. كانت ولادته حدثًا، سمع به كلّ سكان القيروان، واستمرّت الطبول تقرع والموائد تنصب والزّغاريد تلعلع لسبعة أيام كاملة، لم يبق فيها فى حومة على باى جوعان إلا وغرق فى المرق واللحم، ولا عاريًا إلا وكُسى بالصوف والقماش والقطن، ولا معدمًا، إلا وامتلأت جيوبه بالحلوى وقطع النقود البيضاء والصفراء، ولا مديونًا إلا وقَضى دينه، ولا منبوذًا إلا ونُودِى وأُجلِسَ بين الناس، ولا متجهّمًا إلا وانفرجت أساريره، وحتّى الكلاب نالها من بركة «المبروك ولد سيدى عبدالقادر» نصيب، فكنت لا ترى الكلب الأجرب البارز الضلوع منها، إلا وبين فكيه عظمة ساق أو ضلع خروف أو فقرة رقبة أو شريحة لحم ممّا كان يُرمى فى بطحة العروسى مع بقية الطعام فى الليلة الموالية لطبخه. وخرجت الفئران تسعى دون خوف حين عافتها القطط وزهدت فى مطاردتها، بعد أن امتلأت بطونها بالمصران وشرائح الكبد واللحوم، المقلى منها والمشوى والمغموس والمطبوخ والنيئ، والعيون والمخاصى والألسنة، والدماء والشحوم وغضارف قصبات الرئة، وزوائد قلوب العجول والماعز والخرفان والدّجاج.
جاء المبروك بعد سبعة بطون مُرّة، كان الجنين فيها يسقط كل مرّة من رحم عمّتى أمّ الخير قبل أن يُكمل شهره الخامس، وفى كل مرةّ كان زوجها الهادى البوسالمى يعود من ألمانيا حيث يعمل، كان ينفخ لها بطنها، لتتقيأه فى المرحاض بعد أشهر قليلة مُضغة من الدّم الفاسد المُتخثّر، ولتكتب لزوجها الهادى، تخبره بمشيئة الله صابرة. ويوم ولد «المبروك» ابن عمتى أمّ الخير، كانت تمشى وفى يدها وعلى رقبتها رطل من الذهب وأكثر، أصابعها مفرودة بالخواتم النفيسة، وصدرها واجهة صائغ، وأقدامها ترنّ بخلخال من الذهب الخالص.
وهى لم ترث عن أبيها ملكًا، ولا عقارًا، فجدّى لم يورث أبناءه غير اسمه اليسار وبعض الفضائح الخفيفة التى تحوّلت بعد موته إلى نكت ونوادر للسمر، وزوجها أيضًا لم يكن يملك من متاع الدّنيا وحتّى عودته النهائية المفاجئة من ألمانيا، حيث أمضى أكثر من عشر سنوات، يعمل كعامل بسيط للبناء، غير جواز سفر صالح، وبيتهم، وهو عبارة عن خربة حمراء من الآجرّ أقرب منه للبيت، ولم تتغير أحوالها إلا منذ سنوات قليلة.. ومع كلّ ما طرأ عليها من ثراء، بقى بيتها وحتى حملها بابنها «المبروك» على حاله، ومع الوقت، اشترت قطعة الأرض الفسيحة التى وراءها، وأغرت جارتها علجيّة الساحليّة ببيع بيتها الملاصق والانتقال إلى حومة أولاد زايد.. ولم يكمل «المبروك» سنته الثالثة، ويبدأ فى الظهور كجرو غارق فى الكساء والألوان، إلا وبيتها الخربة فيلا رحبة تبهج من يراها، وتثير حسد العابر والمقيم. حكايات كثيرة رُويت عن عودة زوجها الهادى الأخيرة والنهائية، وعن ثرائه المفاجئ.. وفى البداية، تردد على مسامعنا أنه عثر على كنز فى ألمانيا وهو يحفر بئرًا، وسرعان ما تخلى الجميع عن هذا التأويل، حين فسّر لهم جلوّل المعلمّ المتقاعد الوحيد فى الحومة، بأنّ ألمانيا بلد كلّه بلوّر، وليس فيه كنوز أو آبار.. وتوالت الحكايات وتعددت الاجتهادات وزادوا فى التأويل.
ولكن الحقيقة بانت وعُرفت، وبطل العجب، وتلقفها الرجّال من بُخار الحماّم التركى، حيث لا تقوى أشدّ الأسرار على مقاومة ألسنة النّساء المرنة على التوارى.. فحكت أمّ الخير لسالمة العرجاء، وهى تطلى لها شعرها بالصابون، وقبل أن تذهب رغوة الصابون كانت الحكاية قد وصلت صوان الحماّم وتعلقّت بأغراض أولّ النّساء المغادرات، ليتلقّفها زوجها سخنة، ويجرى بها للمقهى حيث نصف ذكور حومة على باى، ومن المقهى، بات السرّ فى كلّ بيت تقريبًا من بيوت القيروان. والحكاية باختصار شديد، وصلتنا كالتالى: كان الهادى البوسالمى قد تعوّد، ومنذ سنوات طويلة، على أن يلعب لعبة اسمها «اللوطو والطوطو»، وهى لعبة يلعبها أغلب سكان ألمانيا والأجانب من المهاجرين فيها، وهى لعبة بسيطة وبريئة، وتتمثل فى ورقة صغيرة مليئة بالمربّعات يشتريها بثمن بخس لا يتعدى الملاميم من أى كشك سجائر أو محلّ قريب، ويقوم بملء ستّ خانات من ضمن الخانات الخمسين التى فى الجذاذة.. وهى خانات تمثلّ كلّ خانة فيها رقمًا متسلسلًا، من الواحد وحتى الخمسين، ثمّ يسلّم الورقة لصاحب المحلّ من جديد، فيطبع على ظهرها بختمه، ويسلّمها بدوره لعربة خاصّة تمرّ على المحلات كلّ نهاية أسبوع وتجمع الأوراق.. ويوم السبت تتمّ القرعة وتدور عجلة اليانصيب، فمن خمّن ثلاث خانات صحيحة، يربح مبلغًا زهيدًا لكن هو مئات أضعاف ما دفع كثمن للورقة، ويتصاعد الربح مع كلّ خانة أكثر.. فمن خمّن أربعة أرقام، وعلّم أربع خانات صحيحة من الخمسين خانة، فربحه يصل إلى المئات.. ومن يصل إلى الخمس خانات فأرباحه تزيد على الآلاف.. ومن يخمّن ست خانات يصل نصيبه من الأرباح إلى الملايين.. ولو كان هو الفائز وحده، ولم يكن هناك غيره خمّن الخانات الستّ، فيصل ربحه إلى عشرات الملايين من الماركات أحيانًا.. وتظهر صوره فى الجرائد والتليفزيون، ويسمى بمحظوظ الأسبوع.. والهادى البوسالمى لم يكمل الأسبوع بعد فوزه، فأهدى كلّ أغراضه للجيران من رفاقه المهاجرين البائسين، ووضع فى يد كلّ واحد منهم رزمة من الأوراق النّقدية.. والهادى البوسالمى طول عمره من أكرم عباد ربى، وكان مبذرًا ويبالغ فى التبذير، حتّى حين كان فقيرًا وعلى قدّ حاله، فكيف وهو مليونير...
والحقّ الحقّ.. لم يحدث ولو مرّة واحدة فى حياتى أننى سمعت من يتفوّه بكلمة عيب واحدة فى عمى الهادى البوسالمى أو زوجته أمّ الخير، إطلاقًا، بالعكس، كان الجميع يلهج بالشكر والحمد، ورغم طبيعة الشرّ المتأصلة فى أعماق أعماقنا، نحن طين حومة على باى وسكّانها الأخيار والأشرار، فقد كان الجميع يتحدّث عن كرم ورجولة ونقاء وطيبة وحسن أخلاق الهادى البوسالمى، ومثلما يتحدّث الرجال عنه فى المحافل، تتحدثّ النساء عن زوجته عمّتى أمّ الخير، ويقولون عنها إنها أصل الجود والكرم وصفاء السريرة والجوهر والقلب والرّوح، وإنّها ملاك نزل من سماء ربّ العالمين وسكن فى حومة على باى المغضوب عليها إلى يوم الدّين، لرحمة من ربّ السماوات والعرش، فهو، مع غضبه علينا، ونحن جميعًا أولاد كلب، ونستحقّ الجحيم، بل الدّرك الأسفل منه، ولكنه خفف من عقابنا الأرضى بجيرة طيّبة، هى جيرة عمتى أمّ الخير، وزوجها الهادى البوسالمى. ولسنوات طويلة، كان الأمر كذلك، وكبر «المبروك ولد سيدى عبدالقادر» فى بيت الخير، بين أحضان أمّه أمّ الخير الحنون، وكانت لجزعها وخوفها عليه، لا تسمح له بالخروج من البيت تقريبًا، ولم يحدث أن ظهر ورأيناه، وتأكدنا أنه حقيقة، إلا مرات قليلة تُعدّ على أصابع اليد الواحدة.. لكنّ أمهاتنا وأخوتنا البنات، كنّ يُحدثننا عنه كلّ أسبوع، فهنّ يرونه مع أمّه فى الحمّام التركى، ويتفرسّن مليًا فى وجهه المبارك الذى يظهر لهنّ تدريجيًا من خلاف أغلفة البُخار، ويخطف أبصارهنّ حين تسكب أمّه، أمّ الخير، على رأسه سطل الماء لينزلق كلّ الصابون على جسده الأبيض اللامع، وتخطفه خطفًا وتلفّه لفًا فى بشكير ألمانى بديع، وتخرج به للسقيفة وتبرك عليه محتضنة ومتمتمة سورة الفلق، وهى تدعو الله أن يحميه من أعين الحسّاد والنفّاثات فى العُقد، ثمّ كانت تسلمّه لمنوبيّة أخت زوجها العانس القزمة، فتحوطه بذراعيها وتجرى به صوب الدار، حيث تحرق ربع رطل من البخور وترشّه بماء زمزم، وتدهن شعره ووجهه بماء الورد والزّهر والعطرشان، وتقرأ على رأسه سورًا معيّنة من القرآن، وأدعيّة خاصّة كتبها شيخ زاوية ومقام سيدى عبدالقادر الجيلانى. هذا كلّ ما نعرفه عنه.. وما يصلنا منه.
لم يُحدّث أحد أنّه سمعه مرّة يبكى، أو رآه يضحك، أو لمح حتى وجهه مكشوفًا وتفرّس فى ملامحه.. وكّنا نكتفى من أخباره بما ترويه نساء الحى عن بياض جسده المرمرى ولمعانه، وعن شعر فاحم السّواد، وعن طيب ينبعث منه من بعيد، يشبه رائحة البخور والعنبر والريحان الذى ينبعث من أضرحة الأولياء الصالحين. ثمّ حدثت الفاجعة الموجعة فجأة ودون مقدّمات، ولا علامات نذير. مزّق صوت صياح منوبية القزمة عمته سكون الحومة ذات قيلولة، وجرت أمّ الخير وراءها حافيّة فى ملابس النوم، لا يكاد صوتها المبحوح يُسعفها، وهى تذرّ التراب على شعرها المكشوف، وخدّها ممزقّ تقطر منه الدمّاء، وجرى وراءها زوجها البوسالمى يحضنها ويغطيها وهو يشهق بالبُكاء.
وعلمنا الخبر اليقين.. «المبروك ولد سيدى عبدالقادر» مات فى سريره مختنقًا.. نسيت عمّته منوبية الكانون الملىء بالفحم والبخور تحت فراشه، وانشغلت عنه لساعة، وحين عادت، وجدت الغرفة تعجّ بالطيب، ووجدت «المبروك» أزرق فى عظام سريره مختنقًا. كان يوم موته قد بلغ السابعة من العمر. ولم تمض أيام قليلة، حتى علمنا بأنّ الهادى البوسالمى وأمّ الخير غادرا مع منوبية حومة على باى للأبد، وثمّة من حدّث بأنهم سافروا للسعودية، وثمّة من قال بأنهم رحلوا للجزائر، وآخرون قالوا إنهم فى ليبيا، ووصلتنا حتى أخبار بأنهّم يعيشون فى القاهرة قرب مقام السيّدة زينب، رضى الله عنها.
أمّا سبب موته وانتحاره، فقد بقى سرًا من أسرار سيدى عبدالقادر، وترسّب فى ذاكرة القيروان، حكاية مرّة موجعة، لا نتحملّ حتى الحديث فيها. نحن نعلم فقط أنّ الله لا يحبّ حومة على باى، وأنّه استكثر علينا أن يكون لنا علامة خير وبركة، وأن يبعث فينا نبى وملاك يعيش بيننا.. أبوه الهادى البوسالمى، طيّب الله ذكره ورفع مقامه بين الأنبياء والصالحين، وأمّه، أمّ الخير، رضوان الله حيّة أو ميّتة وإلى يوم الدّين.