رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البحث عن قاتل حسن البنا


القصة التى يمررها البعض عن أن حسن البنا أوصى بأن يكون جمال عبدالناصر هو مرشد الإخوان من بعده هى قصة خرافية لا أصل لها فحسن البنا لم يرد فى باله أنه سيموت صغيرًا
مضت عشرة أيام على هذا اليوم الذى أمضيته وحسام تمَّام عند الأستاذ أبوغالى، وكنت قد انشغلت بقراءة أوراق قضية مقتل حسن البنا، وانهمكت فى إعمال قواعد الاستدلال من خلال ما تعلمته من علم المنطق، وشُغِلت عن كل شىء حتى أصبح الليل والنهار مجهولين بالنسبة لى!، وكأن الشىء الوحيد، الذى يعيدنى إلى حياتى الطبيعية هو تلك الساعة التى كنت أقضيها بين الحين والآخر مع صديقى سيد حامد، أو مع صديقى مختار نوح لأخبرهما عن الذى وصلت إليه من قرائن وأدلة.
كانت نصيحة مختار لى هى الجلوس مع أحمد عادل كمال، أحد أقطاب التنظيم السرى فى زمن حسن البنا، وصاحب كتاب «النقط فوق الحروف»، وأحد المتهمين الرئيسيين فى قضة السيارة الجيب عام ١٩٤٨، تلك القضية التى كشفت عن تخطيط الإخوان لحرق القاهرة.. ثم أكمل مختار: لعله يكون قد وقع على خبر يقودنا إلى معرفة قاتل البنا.
قلت لمختار: أنت تعرف أننى أتولى الدفاع عن ابنه فى بعض قضايا الأحوال الشخصية، ومن اليسير أن أجلس معه.
وعدت بذاكرتى إلى يوم لا أنساه ما حييت، وهو يوم السبت الموافق الثالث من فبراير من عام ٢٠٠١ حيث كلمنى الدكتور سليم العوا تليفونيا فى الصباح الباكر، ليطلب منى أن أتولى الدفاع عن ابن القطب الإخوانى «أحمد عادل كمال»، إذ كان قد شجر بينه وبين زوجته نزاعٌ قضائى تفرع إلى عدة قضايا تنظرها محاكم مختلفة، فوافقت وطلبت من العوا أن يرسله إلى مكتبى فى المساء، وقد كان، وحينما جاء الرجل إلى مكتبى ظهر من شمائله أنه دقيق صبور هادئ، ورأيت أفكاره مرتبة ومنظمة، يمسك دائما ورقة وقلما ليدوِّن فيها ما يعن له من أفكار.
وقد توطدت أواصر الصداقة بيننا على مدار الشهور والأيام، وأصبح يثق فى، مع أنه من النادر أن يثق بأحد، فما مر به من الأحداث وما جرى عليه من تجاريب الزمان جعلاه يتشكك فى أقرب المقربين منه، وبعد فترة وجيزة من لقائنا الأول أخذ الرجل يسرد لى بعض أسراره، وكان من تلك الأسرار أنه أسهم فى اغتيال المستشار أحمد الخازندار، إلا أن التحقيقات لم تشمله فنجا من السجن فى تلك القضية، وبكى وهو يحكى لى كيف أنه غُرِرَ به لكى يشارك فى تلك الجريمة، وقال إن العذر الوحيد الذى يشفع له هو أنه كان صغيرا لا يعرف شيئا من علوم الدين، وأنه كان يظن أنه بهذا القتل سيصير جنديا فى جيش الإسلام، وأخذ يدعو لنفسه وهو يبكى أن يغفر الله له.
وقد كتبت ما قاله لى الرجل فى مقال بإحدى الصحف عام ٢٠٠٣ فكذبنى الإخوان، وبطبيعة الحال لم يكذبنى هو، ثم مرت الأيام ودار الزمن دورته، وظل الرجل على قيد الحياة، وأظنه لا يزال حيًا إلى تلك اللحظة التى أكتب فيها هذه السطور، رغم أنه وصل إلى منتصف التسعين من عمره، وإذا بموقع الإخوان عام ٢٠١٥ ينشر حوارا معه، وسبحان الله قال الرجل فى حواره نفس ما قاله لى قبل سنوات، وسبحان الله رحَّب الإخوان بالذى قاله لهم ورفعوه إلى مقامات علالى!!.
وعندما أعود إلى تلكم الأيام، التى انشغلت فيها بقراءة قضية مقتل البنا عنَّ لى أن أنفذ فكرة مختار نوح بأن أذهب إلى أحمد عادل كمال فى منزله لعلى أستجلى منه غموض مقتل حسن البنا، وعندما أخبرته تليفونيا برغبتى فى زيارته طلب منى أن أصطحب معى زوجتى وأبنائى لتتعارف الأسرتان، خاصة أنه كان يرغب منذ فترة فى دعوتى على مائدة العشاء، وفى الموعد المضروب ذهبت، مصطحبا أسرتى إلى بيته فى مصر الجديدة، بالقرب من سور الكلية الحربية، وبعد أن تم التعارف فوجئت بأن الرجل دعا أيضا أحد القضاة من أصدقائه اسمه «علاء عبدالرازق» ليكون معنا على العشاء، نظرا لأنه عرف أن صلات زمالة قديمة جمعتنى به فى المدرسة ثم فى الكلية.
وأثناء تناول الطعام سألته: يا أستاذ أحمد أظنك تعرف قاتل حسن البنا؟.. استمر الرجل يأكل ويقدم لنا الطعام وكأنه لم يسمع سؤالى، فتدخل علاء ضاحكًا: يا عم ثروت «الملافظ سعد» أتحدثنا عن القتل ونحن نتناول الطعام.. وبعد أن فرغنا من الطعام وجلسنا نشرب الشاى ونأكل الحلوى سألته نفس السؤال، فإذا به يتجاهلنى تماما وكأنه لم يسمع حتى إننى ظننت أن هناك مشكلة ما فى سمعه، فرفعت صوتى مرة ثالثة بنفس السؤال، فظهرت على وجهه علامات القلق ثم أجاب: أنا كتبت فى هذا الموضوع فى كتابى «النقط فوق الحروف»، والكل يعرف أن البوليس السياسى هو الفاعل بأوامر من الملك.
فواجهته بعدم منطقية قصة القتل، وأخذت أفند أدلتها التى حوكم بمقتضاها المتهمون وكأننى أقف فى قاعة المحكمة عام ١٩٥٣ أترافع عنهم جميعا وأقول إن للواقعة صورة أخرى اتفق الجميع على تغييبها، ولكنها تفتأ تظهر من وراء الغيب رغم أنف الجميع، ولكن العقل البشرى بمسارات تفكيره لا يقبل أبدا أن يرتِّب البوليس عملية الاغتيال، ثم يجعل أحد الشهود يدلى برقم سيارة البوليس، للبوليس، فيقدم البوليس للنيابة رقم سيارته التى ساعدته على الهروب، وكأنه يقول للدنيا كلها: أنا القاتل، إن هذا يذكرنى بجُمْلة من أشهر الجُمَل فى السينما المصرية حينما قال الصول إسماعيل، للشاويش عطية فى فيلم ابن حميدو «فتشنى فتش، فتشنى فتش».
ومع ذلك انتهت الجلسة دون أن يفتح الرجل فمه بكلمة عن هذا الموضوع أو يرد على المنطق الذى عرضته، حتى إنه قام إلى مكتبته وأحضر أحد كتبه اسمه «أطلس الإسلام» وظل يتحدث معنا عن الفتوحات الإسلامية، وكيف أننا كدنا نسيطر على العالم كله، ثم قال: إن هذا كان حلم حسن البنا فهل سيحقق أحد حلمه؟. فسألته: هل كتبت فى أطلسك يا أستاذنا كم عدد الأرواح التى أزهقت من المسلمين وغيرهم أثناء تلك الفتوحات. قال: فى سبيل نشر الإسلام تهون كل الأرواح، ألا تعلم أن حفظ الدين مُقَدم على حفظ النفس؟. أجبته: فإذا ماتت النفوس، فمن ينشر الإسلام؟. قال بهدوء: كلامك يا أستاذ لا يجدى فتيلا، فالله سبحانه وعدنا بالنصر وقال «إن تنصروا الله ينصركم» المهم أن نبدأ السير فى طريق الانتصار لله.
وجدت أن الحوار معه لا يجدى بل سيقودنى إلى متاهات سرمدية لا يمكن الخروج منها، وبعد يومين وجدته يأتينى زائرًا فى مكتبى ليسأل عن تطورات قضايا ابنه، وقبل أن ينصرف فوجئت به يقول: نصيحة منى لا تبحث فى قضية مقتل حسن البنا، فهى قضية شائكة ولن تجلب لك إلا الخسار. فأخبرته أننى إنما أبحث لنفسى ليس إلا، فقال: إذن لتعلم أن من حوكموا فى القضية ليسوا هم القتلة. سألته: فهل تعرف القاتل؟. قال: أعرفه كما أعرف ابنى. سألته: إذن من هو؟. قال: لقد أقسمت قسما مغلظا لا يمكن أن أحنث فيه على ألا أبوح بهذا السر، لذلك لن أستطيع إخبارك وفاءً لقسمى.. انتظرت برهة ثم نطقت اسمًا ما، وحينما نظرت إلى وجهه لأعرف وقع هذا الاسم عليه وجدت عينيه تتسعان ووجهه تجرى عليه ألوان الطيف، ثم غادر حجرة مكتبى فورًا، دون أن يلقى سلام الانصراف، حتى إنه فى غمرة ارتباكه نسى على المنضدة الورقة التى كان يدوِّن فيها أفكاره، ولمَّا ألقيت نظرة عليها وجدت كلمة «الأسد» فى أعلى الصفحة، وفى أقل من الثانية وجدت الرجل قد اقتحم حجرة مكتبى وخطف الورقة من يدى وانصرف.

طال الحديث فى بيت الشيخ الحكيم أبوغالى، حتى إننا تناولنا فى حوارنا كل ما يتعلق بالخطاب الدينى، والتمدد السلفى والقصص التى يرتكن إليها من يقولون إن الله نسخ آيات الرحمة بآية السيف، وكان مما تناولناه الحديث عن المواريث والوصية، والحق أننى سمعت أشياءً من الشيخ فتحت لى المغاليق، وعرَّفتنى على الإسلام بوجهه الحقيقى، فإذا بالإسلام طلق المحيا، منير القسمات، مبهجا يبعث فى القلوب رحمة ورفقًا وحبًا.
سألت الشيخ مغيرًا دفة الحديث: بمناسبة الوصية، هل أوصى حسن البنا بأن يكون جمال عبدالناصر هو مرشد الإخوان بعد موته؟، ثم وبالمناسبة أيضا من هو الذى حرق القاهرة فى يناير عام ١٩٥٢؟.
قال الأستاذ أبوغالى: تعود دائما رغمًا عنك إلى الإخوان وقصصهم التى لا تنتهى، ومع ذلك فإن الحديث عنهم لا يضير طالما أننا نتكلم عن مدرستهم الحركية وشرورها، ومدرستهم الفكرية وآثامها، وقد يكون من الكلام عنهم فائدة لك، وألم لى، ومع ذلك فتلك القصة التى يمررها البعض عن أن حسن البنا أوصى بأن يكون جمال عبدالناصر هو مرشد الإخوان من بعده هى قصة خرافية لا أصل لها، فحسن البنا لم يرد فى باله أنه سيموت صغيرا، والذى يوصى هو الذى يقع تحت وطأة المرض فيشعر بدنو أجله فيوصى، وثانيا يجب أن تعلم بيقين أن جمال عبدالناصر لم يكن إخوانيًا أبدًا والذين يقولون ذلك يهدرون أبسط مبادئ التنظيمات السرية، أو قل هم يجهلونها، أو فى نفوسهم هوى، ولكنك يجب أن تعلم أن هناك شيئًا غريبًا يجمع عبدالناصر بحسن البنا.
قلت: أعرف ذلك فجمال عبدالناصر قال إنه كانت تربطه صلة صداقة بحسن البنا.
قال: لا، لا أقصد هذه. قلت: إذن ما هو؟. قال: الذى قتل حسن البنا أطلق عليه سبع رصاصات، والذى حاول قتل عبدالناصر فى ميدان المنشية أطلق عليه سبع أو ثمانى رصاصات. سألته: وماذا يعنى هذا؟. قال: هذه طريقة تدريب فى تلك العمليات، أو لك أن تقول إن هذا هو أسلوب من أساليب الاغتيال يتم تدريب القتلة عليه فى التنظيم الخاص للإخوان، وقد وضع قواعد تلك الطريقة فى الاغتيال عند الإخوان عبدالرحمن السندى، فمن سيقوم بالاغتيال يجب أن يطلق من مسدسه من سبع إلى تسع طلقات حتى يضمن النتيجة. سألته مندهشًا: الخازندار!، هل تذكر كم رصاصة أطلقت عليه؟. قال: تسع طلقات. سألته ثانية: وأحمد ماهر والنقراشى؟. قال: ظرف المكان يحدد عدد الطلقات حتى يمكن للجانى أن يهرب، لذلك فإن تعليمات الجماعة كانت بالنسبة لأحمد ماهر والنقراشى أن يكون إطلاق الرصاص عليهما من قُرب حتى يسهل لهم إحكام التصويب، ثم بأقل عدد من الطلقات، لذلك نال أحمد ماهر ست طلقات، ونال النقراشى ثلاث طلقات.
قلت: وحريق القاهرة يا أستاذنا، أفدنى أفادك الله.
قال: أنت بسؤالك عن الذى حرق القاهرة، ستعرف، وستوجعنى وللمعرفة وجع، ولكن وجيعتى غير وجيعتك، وجيعتك تشبه وجع الوليد وهو يصافح نور الدنيا فيَدخل هواء الحياة إلى رئتيه فيؤلمها فيبكى.
سكت الشيخ ووجدته يقاوم دموعًا أرادت أن تندفع من مقلتيه، ثم أكمل قائلًا: ولكن هذا السؤال ينكأ جرحًا غائرًا فى نفسى كنت قد أغلقته وظننت أنه اندمل ولكنه لا يكاد يتركنى.
سألته وأنا أترفق به: هل لك علاقة بحريق القاهرة؟
قال: أنا أعرف كل شىء عن حريق القاهرة.