رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فرش الشيطان

جريدة الدستور

هل تصدق يا صاحبى أنى رأيت الشيطان بعينىّ هاتين، كما أراك الآن، انتظر.. لا تدر وجهك مستهينًا أو مستهزئًا هكذا، فقد حدث هذا أثناء هبوطى من الجبل، وعورة النزول كانت تجعل تركيزى على موضع قدمى، تعرف طبعًا مشكلة ركبتى اليمنى، فمنذ تلك الخبطة القاسية التى تلقيتها فى الصغر جراء غفلتى، وأنا أحرص على أن أقدّم قدمى اليسرى فى الهبوط.. تبتسم يا شرير، أعرف مقصدك، لكنه ليس لقدمى التى كنت أقدمها فى نزولى من الجبل علاقة بالشيطان الذى رأيت.
قد بتنا ليلتنا فوق الجبل كما تعلم، محتمين من البرد بأخاديد الصخور العالية، والحكاية القديمة تقول: إن الشيطان يسكن الشقوق.. فهل أيقظته حركتنا والضجيج الذى أحدثناه؟، أم تراه خرج متلمسًا الدفء من النار التى أوقدناها؟، لكن فى كل الأحوال لم يلحظه أحد، فالضوء الخفيف للنجوم لم يكن يسمح لعينىّ الكليلتين بأن تراه بجلاء كما حدث فى هبوطى.
تعرف علو الجبل والمدقات المتعرجة الطويلة المجهدة التى تأخذنا لقمته، وتعرف أيضًا الدرب الآخر، الأكثر وعورة والأقصر نسبيًا وقد جرى التحذير كثيرًا من الخطو فيه، نعم هو، فرش الشيطان، كما يطلق عليه، فلا يمكن لبشر مهما أوتى من قوة وصبر وجلَد أن يرص الحجارة بتلك الكيفية الحادة والصعبة، التى يطلق عليها تبسيطًا: سلالم، وهى ليست لها أى علاقة بهذه التسمية، صخور عالية وأخرى واطئة، تحتاج للقفز فى كثير من الأحيان، وهذا شىء هيّن، لأن الأهم هو الحفاظ على التوازن أثناء القفز وطوال الهبوط، لأنك لو فقدته فى أى لحظة سوف تهوى مسافة الثلاثة كيلومترات حتى ترتطم بصخور الوادى المشرعة أسنتها فى انتظار سقوطك.
لن أعيد ذكر الخلاف الذى جرى فوق الجبل، والذى أدى إلى إصرارى على الهبوط منفردًا عبر فرش الشيطان، لا أريد الخوض فيه، فقد كنت أنت حاضرًا، ورأيت تنامى العنت طوال الليل.. أنا لا أعاتبك يا صديقى لأنك لم تقف بجوارى، أو حتى تشاركنى رحلة الهبوط، فقط أقول هذا وأنت أدرى بعنادى، ذلك العناد الذى قاد خطواتى بهدوء نحو الشيطان، عبر سلالمه المجهدة.
بينما أتقافز كغراب من صخرة لأخرى، مقدمًا قدمى اليسرى ومحافظًا على توازنى، لكن التنفس كان يغلبنى، مما يضطرنى لكثرة الوقوف، رويدًا كان الوادى يتكشف عن جمال لم نشاهده أبدًا من أسفل، فارق كبير يا صاحبى بين رؤية الجمال من علٍ، وأنت محيط بكل تفاصيل المشهد، لكن وليس أقدامك متورطة فيه، والصخور بدمامتها العتيدة تسد الأجواء فى ناظريك، عليك أن تغامر يا صديقى مرة، وتنزل هذه السلالم الشيطانية، دعك من الحكايات القديمة عن الذين طاروا ساقطين على هذه الصخور التى نجلس فى ظل إحداها الآن، نعم... نعم يا صديقى سقطوا ضاحكين والبسمة تملأ وجوههم، والتى لم يستطع الموت أو تهشم أجسادهم محوها، أليس هذا مغريًا، أن ترتسم مثل تلك البسمة بكل ما تحمله من بهجة على وجوهنا ولو لمرة واحدة فى حياتنا القاحلة هذه.
بالطبع يا صديقى لم أتذكر هذه الحكايات أثناء هبوطى المتعرج، ولا حتى التحذيرات القديمة، فقد كان مرجل العناد قد قادنى لأول الدرب، ولم يبق لى سوى أن أكمل مهما كانت النتائج، فالرجال، وأظننى رجلًا، عليهم كسب رهاناتهم طالما ارتضوا بها، وقد راهنتكم أننى سأنزل إلى الوادى قبلكم، وسوف أجلس أنتظركم فى الظل مادًا قدمىّ فى وجوهكم المجهدة.. ألمح بسمتك يا صديقى الآن، كما رأيتها وأنا أعلن رهانى بكل حزم وكنت أتوقع أن تساندنى فيه، ربما لحظتها حنقت من بسمتك الهازئة تلك، لكن صدقنى يا صاحبى إنها كانت خير معين لى على أن أكمل هبوطى، كلما شعرت بالوهن أو الألم يشرخ ركبتى أو أحس بضيق التنفس، صدقنى كانت تمدنى بقوة وإصرار أن أكون هنا، فى انتظارك أنت تحديدًا يا صاحبى، ليس للبقية أى أهمية، فالبسمة كانت تشعرنى بأن الرهان بينى وبينك، نعم بيننا يا صديقى، كما لو عدنا لأيام الصبا والتقافز بين الصخور مهما كانت المسافة، المسافة التى لم أحسن تقديرها فى واحد من رهاناتنا جعلتنى أتلقى تلك الخبطة القاسية فى ركبتى.
لن أطيل عليك، فأنا أرى الإجهاد باديًا عليك، كنت عند المنعرج الأخير متعبًا وركبتى كتلة من الألم أحملها كعقاب أبدى، أقفز وأقف متأرجحًا وقد انكشف الوادى من تحتى، رفعت عينىّ ببطء من على قدمى بعد أن استقرت وأنا أملأ رئتى بأشهى نسمة صباحية يمكن توقعها بين الجبال العالية هذه، ورأيت الجنة، يا الله.. كل هذا الجمال، أشجار وخضرة تكسو كل البقاع، ورائحة ذكية تتصاعد، وطيور ملونة لم أرَ مثلها، وموسيقى مختلطة بغناء كأنه السحر.. ولم أقوَ على الوقوف فتراجعت حتى جلست على الصخرة مدليًا قدمىّ.
خامرنى شك بأنى قد تهت، وخطوت فى درب خطأ، فما تراه عينىّ الآن لم يقصه أحد من قبل عن هذه النواحى، والغناء يسكرنى فأهز قدمىّ وقد زال ألمها، وطيور تقترب منى، يا هول روحى وقد كشفت الطيور عن حوريات بأجنحة، رحن يدعوننى كى أطير برفقتهن، وصعبت علىّ روحى وغلبنى البكاء، نعم يا صديقى بكيت، بكيت من أن هذا الجمال قائم جوارنا طوال الوقت ولم نكن ندرى به، ومن خلال دموعى رأيتك تأتى من خلفى، نعم هو أنت، لا تقاطعنى واسمع للنهاية، كنت تطير بجناحين مثلهن، قافزًا من صخرة لأخرى حتى وقفت فى الفضاء قبالتى، ومددت يدك لى: هيا قم، حاولت أن أنطق، لكنى لم أجد لسانى، وشعرت كأن أجنحة تنبت من تحت إبطى، وروحى صارت أكثر خفة ومرحًا، لكنك يا صاحبى ابتسمت، نعم، ابتسمت، نفس البسمة اللئيمة التى رأيتها فوق الجبل، فعرفت بأنك الشيطان، وعلى الفور أغمضت عينىّ وتمددت بظهرى للخلف نائمًا، حتى انسل الغناء وانقشعت الرائحة، وعادت الجبال لجهامتها، والألم لركبتى، فقمت ماسحًا دموعى، وأخذت فى الهبوط كى أنتظرك هنا.. يا صديقى.
من مجموعة «ضلال الرائحة» تنشر قريبًا