رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

1989

جريدة الدستور

«أنا لو كنت وديتكم ورش كان أحسن».
هذا ما نطق به أبى بينما نستعد لعبور طريق العروبة بعد أن غادرنا المدرسة.
لم أعرف أنه سيأتى إلى المدرسة للسؤال عنى، ولا أعرف لماذا فعل ذلك، سمعت طرقات فوق باب الفصل، أوقف الأستاذ أبومسلم، مدرس اللغة العربية، الشرح، ومشى خطوتين ليفتح الباب، لمحت أبى يقف خارج الفصل مرتديًا جلبابه البلدى ذا الأكمام الواسعة، وقفت تلقائيًا، عرّفه أبى بنفسه، خرج ثلاثتنا لنقف فى الطرقة الطويلة التى تصطف على جانبيها الفصول والتى تنتهى بسلم فى كلا الاتجاهين، سأله أبى عنى فأثنى الأستاذ علىَّ، استأذنه أبى أن أذهب معه، عدت لأحضر حقيبة الكتب، تناولتها وأنا أغمز لصديقى الجالس بجوارى.
من صادفناهم يومها من مدرسىَّ سألهم أبى عنى، فكرروا نفس الكلام بعبارات مختلفة.
عبرنا الطريق، كنت أتعجب من ردة فعل أبى، قلت فى سرى: «أومال لو كانوا اشتكوا منى كنت هاتقول إيه؟!».
نظرت إليه: ليه بتقول كده يا بابا؟
كأننى لم أقل شيئًا، استمر أبى فى تكرار نفس الكلام، قال: مش يمكن إنت اللى قايل لهم!.
- أنا ماكنتش أعرف إن حضرتك جاى، وإزاى هاتفق معاهم كلهم؟!
يبدو أن أبى كان يمنى نفسه أن يسمع عكس ما سمع، شعرت بإحساسه بالهزيمة رغم عباراته الحادة الخشنة التى بدت لى ساعتها انعكاسًا للشعور بالخيبة مما حدث. من بين ما قاله إنه نسى أن يأتى بكرباج سودانى اشتراه بالكويت وكان يواظب على وضعه بالزيت ليؤدبنا به، ثم قال: على الأقل لو كنت وديتكم ورش كان زمانكم بتكسبوا.
لم أعرف بما أرد، هل ينظر أبى إلينا على أننا مجرد آلات من الممكن أن تدر عليه ربحًا! هل أنجبنا لنتحول إلى مشروع استثمارى يدر عليه دخلًا إضافيًا، دون الالتفات إلى أحلامنا؟! تذكرت أمى السيدة الأمية التى كانت تردد دائمًا: «عاوزاكم تتشطروا.. عاوزاكم تتعلموا ما تطلعوش زيى.. أنا أمى ماودتنيش مدارس».
تردد جملتها الأخيرة بأسى يدفعنا للاجتهاد كى نحقق حلمها. عبرنا الطريق ثم سرنا يسارًا فى اتجاه شارع الثورة، وقبل أن ننحرف يمينًا، فى طريقنا إلى الكوربة لمحت «قصر البارون» فكرت أن أسرح فى حكايته كمحاولة للهرب من كلمات أبى، تذكرت اليوم الذى دخلنا فيه إلى ذلك القصر المهجور.
كنا قد انتهينا من مباراة كرة قدم فى الملعب الكبير الذى يفصله باب حديدى صغير عن باقى المدرسة، الملعب الذى سيتحول بعد سنوات إلى حديقة محبوسة داخل سياج حديدى، حديقة لا يدخلها أحد، حملنا حقائبنا وسرنا نجفف عرقنا، مشينا فى شارع العروبة فى طريقنا إلى محطة المترو، ظهر القصر أمامنا فهتف أحدنا: ما تيجوا ندخل القصر.
تحمس له آخر، وهتف آخر: يلا بينا.
درنا حول السور المحيط به بحثًا عن فتحة يمكننا الدخول منها، فقد كان محاطًا بسور حديدى ينتهى بحواف مدببة يصعب القفز فوقها، وجدنا فتحة عند السور الخلفى للقصر، عبرنا منها واحدًا وراء الآخر، وقفنا عند السلالم الخارجية المتعبة، ترددنا، شعرنا بالخوف، تذكرت محاولة أخى وأصدقائه الذين يكبروننا والذين خافوا حتى أن يعبروا السور الخارجى.
تقدمنا، وقفنا أمام الباب دفعناه فلم يفتح، درنا حوله، وجدنا نافذة مفتوحة قفزنا منها. دخلنا ووقفنا إلى جوار بعضنا فى الضوء المتسلل إلى القصر الذى صمم بطريقة تجعل الشمس لا تغيب عن حجراته أبدًا، كانت الأرض مغطاة بالتراب وأوراق كثيرة حملتها الريح إلى هنا وضلفة نافذة ملقاة على الأرض وزجاج متكسر، كان أمامنا سلم، صعدنا ببطء، سمعنا صوت أجنحة طيور ترف لكننا لم نر شيئًا، هل تسكن القصر طيور بالفعل أم أنها أصوات أجنحة الأشباح التى تسكنه! صعدنا إلى الطابق الثانى تجولنا فى حجراته، صرخ أحدنا بصوت عالٍ محاولًا إخافتنا، فزعنا ونزلنا السلالم بسرعة وقفزنا كالبرق من الشباك الوحيد المفتوح.
جلسنا على الرصيف نلتقط أنفاسنا ونضحك، حين قمت لأنفض ملابسى، تلفت إلى أبى، كان لا يزال يتكلم عن أحلامه التى ضاعت فى أن نصبح «صنايعية» نكسب قرشنا بذراعنا بدلًا من الاعتماد عليه، وعن أمى التى أفسدتنا بإدخالنا المدارس فى غيبة منه. اقتربنا من شارع إبراهيم اللقانى، قررت العودة مرة أخرى إلى القصر هروبًا من عباراته التى لم يتوقف عن تكرارها كل مرة بصيغة مختلفة.