رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عقيدة الصدمة واستراتيجية الكوارث «1»




لم يعدم الغرب وجود مثقفين كبار، ومفكرين عِظام، امتلكوا رؤيةً نزيهةً، وضميرًا حيًّا، وصلابةً كافيةً لتحدّى سطوة الاحتكارات، وغلبة رأس المال، وسيطرة المؤسسات المالية والاقتصادية الكبرى، بإمكانياتها الهائلة، وهيمنتها على مراكز صنع القرار، ومؤسسات الإعلام القادرة على تزييف الصورة، والتشويش على الوعى العام.
فى مواجهة كل هذا لم يترددوا فى الإدلاء بشهاداتهم الصادقة، والإعلان عن رأيهم الحقيقى، فى عمليات الاستغلال والنهب المستمر للثروة، وتركيز رأس المال بأيدى نخبة معدودة من كبار أصحاب رءوس الأموال، ليس على النطاق العالمى، وفيما يخص شعوب وبلدان عالمنا الثالث المغلوبة على أمرها وحسب، وإنما وهو لا يقل أهمية، فيما يخص مواطنى العالم المتقدم نفسه، وهو ما اعترفت بملمح منه وكالة «بلومبرج» الإخبارية الأمريكية (الأهرام ٢١ يناير)، بإعلانها أنه «بعد مرور ١٠ أعوام على الأزمة الاقتصادية (أزمة ٢٠٠٨)، تضاعفت ثروات نُخب «دافوس» (المنتدى الاقتصادى العالمى)، حيث أضافوا إلى ثرواتهم نحو ١٧٥ مليار دولار»، وبلغت رواتب المديرين التنفيذيين «القطط السمان» ٣٠٠ ضعف الموظفين العاديين.
ومع أن ظاهرة تمركز وتوحُّش رأس المال المالى، وخضوعه لهيمنة نفر من كبار الماليين ورجال الأعمال الاحتكاريين، الذين لا يترددون فى شن الحروب، واحتلال الدول، والاعتداء على الشعوب، وفرض سياسات التجويع والإفقار على مئات الملايين من البشر، فى سبيل تعظيم ثرواتهم ومصادر قوتهم، هى ظاهرة ليست بالجديدة وقد خضعت لتشريح وافٍ من الفكر السياسى الماركسى واليسارى، فإن من أهم الكتب الحديثة التى تعالج هذه الظاهرة، بوضوح وشفافية، سفر كبير (نحو ٧٥٠ صفحة)، عنوانه: «عقيدة الصدمة.. صعود رأسمالية الكوارث»، من تأليف «نعومى كلاين»، وهو كتاب وجدت أفكاره ومضامينه صدى كبيرًا، بين المتخصصين والجمهور، وحقق انتشارًا واسعًا، لعمقه وغزارة مادته.
يبدأ الكتاب بآية مقتطفة من «سفر التكوين - ٦»، نصها الموحى كالتالى: «فسدت الأرض أمام الله وامتلأت الأرض ظلمًا، ورأى الله الأرض فإذا هى قد فسدت. إذ كان كل فرد قد أفسد طريقه على الأرض، فقال الله لنوح: نهاية كل بشر قد أتت أمامى لأن الأرض امتلأت ظلمًا منهم، فها أنا مهلكهم مع الأرض».
وهو تصدير كاشف، فالكتاب يُعرّى عمليات الفساد المريع التى تصاحب العمليات الاقتصادية الكبرى، ويشرح كيف تستثمر الطبقات الحاكمة، فى الغرب، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، الكوارث المروِّعة التى تضرب الناس، والوقائع المريعة التى تعترض مسار حياتهم، لفرض سياساتها الوحشية التى لا تأبه لآلام المجتمع أو تتأثر بأحزان البشر، لأنَّ ما يهمها فى الأساس هو أرباحها وعوائدها المالية، والمكاسب الخُرافية التى تجنيها من وراء استغلال هذه الكوارث، مستفيدةً من حالة «الصدمة»، الطبيعية أو المصطنعة التى تحيق بمن يتعرض لها، ومن فترة التشتيت، وغياب التركيز، وعدم الانتباه المصاحبة لكل صدمة، من أجل تمرير القرارات الاقتصادية المجحفة بحقوق ملايين البشر من الطبقات الفقيرة ومحدودة الدخل، ومضاعفة ما يمكن نهبه، فى غفلة من الزمن، ودون التقيد بأى التزامات أخلاقية، أو ضوابط قانونية، أو موانع سلوكية.. فالمهم هو الربح ثم الربح ثم الربح، ولتذهب القيم والإنسانية إلى الجحيم!
والمُنَظِّرُ الرئيسى لهذا التوجّه، الذى يُسمّى «حركة الرأسمالية غير المُقيّدة»، هو الاقتصادى «ميلتون فريدمان»، أو «العم ميلتى» كما عُرف بين أتباعه والأصدقاء، وقد عاش طويلًا ورحل فى الرابعة والتسعين من العمر، وهو الذى وصفه عالم الاقتصاد «الليبرالى» الشهير «بول سامو يلسون» باعتباره: «العملاق الذى لم يرق اقتصادى واحد من القرن العشرين إلى أهميته فى تحريك الاقتصاد الأمريكى منذ عام ١٩٤٠ وحتى الآن».