رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فكِّروا ولا تكفِّروا


يا صديقى فلتعلم أن الله خلق لنا عقولنا لكى نستخدمها، لا لكى نسلمها لغيرنا، وحين أراد الله أن يكلفنا قال لنا إنه لن يكلف نفسًا إلا وسعها، إذن فلن يلزمها بما لا يُطيقه عقلها، وهذا من تمام عدل الله سبحانه، ولكن الأجيال التى ورثنا منها فهمها للدين وأخذناه منها بالحرف، هذه الأجيال ابتكرت لنفسها نظرية دينية عن الإيمان والكفر غاب عنها العدل، ثم وضعت هذه النظرية تعريفات للإيمان، وتعريفات للكفر، ثم نسبت هذه النظرية، زورًا وبهتانًا، إلى الله رب العالمين، أما أنا يا صديقى، فأطالبك بأن تترك تلك التعريفات التى ورثناها عن الكفر والإيمان واسمع معى ثم ناقشنى.
ظللنا نسمع أن من لا يؤمن بالله فهو كافر، ومن لا يؤمن بالإسلام فهو كافر، ثم تطور الأمر وأصبح من لا يؤمن بما قال البعض إنه معلوم من الدين بالضرورة فهو كافر!، ولأن الكافر مآله النار، لذلك أمسى معظم البشر من أهل النار، وكأن الله قد خلق البشر ليدخلهم النار، ويعذبهم بشكل سرمدى إلى ما لا نهاية، ثم كان أن حدثت فى تاريخنا مذابح من «أهل التكفير» ضد من اعتبروهم كفارًا، وكأن الله أعطى بعض البشر الحق فى وصم غيرهم بالكفر، ومن ثم قتلهم، وأظننا يا صديقى نعيش منذ قرون فى خلط أحدثه البعض قصدًا، وظلت الأجيال تنهل من هذه الخربطة واللخبطة، فاختلط الحابل بالنابل.
فقد قام القدماء يا صديقى باختراع معنى لكلمة «الكفر» يخالف المعنى اللغوى الذى يعرفه الجميع، أطلقوا عليه «المعنى الاصطلاحى»، وبما أنه اصطلاحى فلا يجوز لك أن تناقشه أو تفكر فى صحته أو تسبر غوره!، وفى هذا المعنى الاصطلاحى تم التغاضى عن آيات القرآن الكريم عن الكفر، تلك الآيات التى توافقت مع المعنى اللغوى، أما السبب الذى من أجله تم اختراع المعنى الاصطلاحى فقد كان سياسيًا، حيث قام القدماء بإعمال تلك التفرقة الشاذة ليكون التكفير سلاحًا تحت يد من يريد إقصاء الآخر وخلعه من ربقة الإيمان!، أما الكفر فى اللغة فهو ستر الشىء وتغطيته، وأما فى الاصطلاح فهو عدم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وعدم الإيمان برسالة الإسلام، أو أن يكون الشخص قد عمل عملًا يخرجه من الإيمان.
ولذلك فإن الكافر هو من مات على غير ملة الإسلام، وأفهام القدماء التى وصلت إلينا عبر الأجيال تقول إن من سمع عن الإسلام ولم يتبعه فهو كافر، وكل من سمع عن الإسلام يجب أن يبحث وينظر!، فإن لم يفعل وكان قادرًا على البحث والنظر فهو كافر مخلّد فى النار، فكل من كان فى أقاصى الجنوب والشمال والمشرق وجزائر البحور والمغرب، وأغفال الأرض فسمع بذكره صلى الله عليه وسلم، ففرض عليه البحث عن حاله والإيمان به. وسنسير مع القدماء يا صديقى خطوة خطوة فنقول لهم: ما الذى يُلزم غير المسلم بالبحث فى الإسلام؟، سيقول لك أتباع القدماء: دين الحق يا رجل هو الذى يُلزمهم بهذا، الإسلام يُلزم الجميع، أليس فى هذا شك؟، ألا تؤمن بالإسلام يا رجل؟!.. لا والله أنا مسلم مؤمن بالله الواحد الأحد العدل الرحمن الرحيم، ولكن هؤلاء الذين تقول عنهم إن الإسلام يلزمهم بالبحث عن الإسلام لا يؤمنون بالإسلام أصلًا، فكيف يلتزمون من خلال دين لا يؤمنون به، فالإسلام، يا مولانا، لا يُكلف إلا من اعتنقه، اعلم يا شيخ أنت ومَنْ معك أن الإسلام تكليف ودعوة، تكليف لمن اعتنقه، ودعوة لمن لم يعتنقه؛ لذلك فإن الداعية هو من يدعو غير المسلمين إلى دخول الإسلام.
يا صديقى اقرأ معى بهدوء، كيف يستوى الشاهد والغايب، والشاهد يرى ما لا يرى الغايب «قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ» الذى يعلم هو الذى تلزمه الحجة، والذى لا يعلم لا إلزام عليه، هكذا قال الله فى كل كتابه الكريم، كلماته واضحة تعبّر عن نفسها، فكيف غفل هؤلاء عنها، ألم يقل «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ»، هذا هو ما يؤاخذ عليه الإنسان، إذا جاءه العلم ثم أهدره واتبع الهوى فهو إذن لمن الظالمين، أما من لم يأته العلم فهل يكون من الظالمين؟!، فما هو غيب إلا لأنه غُيّب عن عقولهم وأفئدتهم، فهل يحاسب المرء على ما غاب عنه؟!.
يا أيها الشيخ، ليس كل من لا يؤمن بالله كافرًا، وليس كل من لم يؤمن بالرسول، صلى الله عليه وسلم، كافرًا، وليس كل يهودى أو مسيحى يعيش بينكم سيكون مآله النار، وليس كل من أنكر أمرًا اشتهر فى الدين وتطلقون عليه «معلوم من الدين بالضرورة» كافرًا، وليس لنا أن نحكم بكفر أحد أيًا كان، فالعقل مناط التكليف، ولا يكلف الله نفسًا إلا ما أتاها فى استعدادها الأزلى، فهو خالقها وهو الذى يعلم بواطنها وخوافيها، فلا تكليف على من عجز عقله عن الوصول إليه. اعلم يا مولانا المكفراتى أن خَلـْق الله ثلاثة، هم، أهل الإيمان، وأهل الجهل أو الغفلة، وأهل الكفر، أما أهل الإيمان فهم من عرفوا الحق فاتبعوه، وأهل الجهل والغفلة هم من لم يعرفوا الحق فلم يتبعوه، وأهل الكفر هم من عرفوا الحق فجحدوه وأنكروه، فالكافر حاجب وساتر للحق، أما الجاهل فهو مستور عنه ومحجوب عنه الحق، وهذا غير ذاك.
لذلك يقول الحق سبحانه «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا»، فى هذه الآية وفى غيرها يتحدث الله، ليس عن أهل الكتاب جملة، وليس عن المشركين جملة، ولكن يحدثنا عن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، أى عن أولئك الذين عرفوا الحق، فكفروه، أى حجبوه وستروه، أما غيرهم من أهل الكتاب والمشركين ممن لم يعرفوا الحق، ولم تهدهم عقولهم إليه فهم مكفور عنهم وليسوا كافرين، ولذلك فإن كل نبى أرسله الله كان يأتى قومه بآية أو علامة، فيعرفون أنه مرسل من قِبل الله، فكانت لإبراهيم آياته، ولموسى آياته، ولعيسى آياته، ولمحمد آياته.
هذه الآيات لأقوامهم، فإذا رأوها عرفوا أنها فوق إمكانية البشر، آمنوا بهم، ولكن كان هناك من أقوامهم من يرى الآيات، ومع ذلك يجحدونها ويقولون «إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا» فهؤلاء هم كفار «الشهود والمعاينة»، ومن هؤلاء من قال فيهم الله سبحانه فى سورة النمل «فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًا» هنا يا مولانا جاءت آية الله مبصرة، واضحة، جلية، ولكنهم قالوا للناس حتى يفتنوهم «هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ»، رغم أن أنفسهم استيقنت الحق، فهؤلاء هم الكفرة. فإذا وصلت أخبار هذه الآيات لأمم بعد أمة الشهادة، فآمن بها البعض فهو مؤمن بالاتباع، وأيقن بها البعض الآخر وجحدها، فهو كافر، ولم يصدقها البعض ولم تدخل إلى عقله، فهو مكفور عنه لا كافر، ويُعذر لأنه لم يكن من أهل الشهادة والمعاينة، لذلك عندما تحدث الله سبحانه عن قوم سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، قبل أن يتنزل عليهم الإسلام قال «لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ» لم يصفهم الله بالكفر، ولكن وصفهم بالغفلة، ولكن وصف الكفر لحقهم بعد أن بُعث فيهم الرسول وأيقنوا برسالته ثم جحدوها.