رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

برلسكونى.. كأن شيئًا لم يكن!


احتفل بعيد ميلاده الـ٨٢، فى ٢٩ سبتمبر الماضى، وكان الفساد هو العنوان الأبرز للحكومات الثلاث التى تولى رئاستها، واضطر إلى التنّحى عن الحكم، فى ٢٠١١، بعد ملاحقات قضائية متتالية، وفضائح جنسية، وبعد أن صارت نسبة ديون إيطاليا ١٢٠٪ من ناتجها القومى الإجمالى. وكذا بعد أن ظل ممنوعًا لخمس سنوات، إلا قليلًا، من تولى أى مناصب عامة، بعد إدانته قضائيًا فى جرائم فساد مالى وتهرب ضريبى.
مع كل ذلك، ولأن غواية السلطة لا تسقط بالتقادم أو بالتقدم فى السن، عاد سيلفيو برلسكونى، رئيس الوزراء الإيطالى الأسبق، إلى صدارة المشهد السياسى، وكأن شيئًا لم يكن، مع توقعات بأن يعود قريبًا إلى رئاسة الوزراء. ومنذ أيام، أعلن اعتزامه الترشّح لانتخابات البرلمان الأوروبى المقرر إجراؤها أواخر مايو المقبل، بزعم أنه اتخذ قرار الترشح «دفاعًا عن التغيير الذى يحتاج إليه الاتحاد الأوروبى ليكون كتلةً متراصّةً لها منظومتها الدفاعية الموّحدة والقادرة على محاكاة القوى العسكرية الأخرى وإسماع صوتها على الساحة الدولية».
من جزيرة سردينيا، أعلن أنه سيرأس قائمة اليمين فى الانتخابات الأوروبية التى يُنتظر أن تغيّر المشهد السياسى فى الاتحاد الأوروبى. ولم يفت رئيس الوزراء الأسبق أن يهاجم الحكومة الإيطالية الحالية ويهدد بإزاحتها، ووصف التحالف الحاكم، بين «النجوم الخمس» و«رابطة الشمال»، بأنه مناقض لطبيعة السياسة الإيطالية، مؤكدًا أن أيام هذا التحالف أصبحت معدودةً، لأنهما قوتان متناقضتان، لم تتحالفا إلا من أجل السلطة. وأضاف: «سأضع حدًا لهذه الحكومة التى تدفع بالبلاد نحو المجهول كما فعلت فى عام ١٩٩٤، عندما وضعت حدًّا للشيوعيين وحلفائهم».
صاحب التاريخ غير المشرف فى إطلاق التعليقات السياسية المثيرة للجدل، اعتاد خطف الأضواء، وانتزاع صيحات الدهشة. وما قد يثير دهشتك هو أنه لم يتوقف عن لعب أدوار سياسية، مع أنه كان ممنوعًا من تولّى مناصب عامة قبل ٢٠١٩، بموجب حكم قضائى، صدر سنة ٢٠١٣. وكان غريبًا وعجيبًا أن تقضى محكمة فى ميلانو، ١٢ مايو الماضى، بـ«إعادة الأهلية» إلى الرجل، وإلغاء منعه من تولى مناصب عامة أو الترشح لها، بزعم أنه «حسن السير والسلوك». وعليه، استطاع حزبه، «إلى الأمام إيطاليا» أو «فورزا إيطاليا»، أن يضع صوره فى اللافتات وعلى بطاقات التصويت فى الانتخابات العامة الأخيرة، التى تحالف فيها مع «رابطة الشمال» وحزب «إخوان إيطاليا»، غير أن هذا التحالف فشل فى تحقيق نسبة الـ٤٠٪ التى تسمح له بالحصول على أغلبية مقاعد البرلمان، وبالتالى، بتشكيل الحكومة.
الانتخابات الإيطالية تقوم على مزيج معقد من القوائم النسبية، تسمح بالحصول على أغلبية المقاعد بمجرد الفوز بـ٤٠٪ من الأصوات، بموجب قانون تم «تفصيله»، استهدف بشكل أساسى منع تقدّم حركة «النجوم الخمس»، التى تأسست منذ تسع سنوات، لتكون بديلًا للأحزاب والمنظومة السياسية السائدة، لكن الرياح أتت بما لا تشتهى سفن مَن قاموا بتفصيل القانون أو المفوضية الأوروبية، وفازت الحركة فى الانتخابات الماضية بأكثر من ٣٢٪ من الأصوات، أى بأكبر كتلة نيابية لحزب واحد. وعليه، كان طبيعيًا أن يتعثر تشكيل الحكومة رقم ٦٧ بعد الحرب العالمية الثانية، وأن يتم التحايل للقفز إلى الحكومة رقم ٦٨ فى أقرب وقت ممكن.
مدعومًا من الاتحاد الأوروبى، يتم تسويقه على أنه الوحيد القادر على انتشال الاقتصاد الإيطالى من فترة ركود استمرت عشرين سنة. ولم تتوقف التحذيرات من كوارث اقتصادية قد تتسبب فيها «حكومة شعبوية». وحتى لو لم يتمكن «إلى الأمام إيطاليا» من الحصول على نسبة ٤٠٪ فى الانتخابات القادمة، سواء كانت مبكرة أو فى موعدها الطبيعى، إلا أن تحالفه مع «رابطة الشمال»، حليفه القديم، سيضمن له تشكيل الحكومة. صحيح أن «الرابطة» متحالف الآن مع «النجوم الخمس»، إلا أن مساحات الاختلاف بينهما أكبر من مساحة التوافق. كما أن تحالفه القديم جدًا مع «إلى الأمام إيطاليا» أتاح له أن يتولّى دائمًا حقائب وزارية مهمة فى حكومات برلسكونى الثلاث، وصلت فى حكومة ٢٠٠٨ إلى أربع حقائب.
الخلاصة، هى أن برلسكونى عاد مجددًا إلى الأضواء، كأن شيئَا لم يكن. وعادت معه تعليقاته المثيرة للجدل وقصص أو أساطير علاقاته النسائية. وغالبًا، سينجح فى انتخابات الاتحاد الأوروبى، وقريبًا قد يعود إلى رئاسة الوزراء، ليس بسبب قدرته على تسويق نفسه، معتمدًا على قنواته التليفزيونية الثلاث وصحفه ومجلاته، وليس لأن المشهد السياسى الإيطالى يحتاجه أو يناسبه، ولكن لأن الاتحاد الأوروبى، الأسواق المالية، و«عائلات البلاد» وشركاتها، لن تسمح بوأد النظام السياسى الذى حكم إيطاليا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.