رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثورتان.. وثوار.. وثيران!


من حقك أن تتباهى بأنك شاركت فى ثورتين، وتنشر الهاشتاج الذى يمجد ذلك على صفحتك، فالمشاركة فى الثورة عمل بطولى ورومانسى إذا كانت النية خالصة لله وللوطن، ولكن حالة المباهاة هذه يجب ألا تجعلك من أصحاب الذاكرة السمكية، فتنسى أنك شاركت فى الثورة الثانية فى ٣٠ يونيو مع عشرات الملايين، خوفًا من النتائج الكارثية للثورة الأولى، التى أتت إلينا برئيس «استبن» لا يملك من أمر نفسه شيئًا، وإنما هو رجل يوحى إليه من خفافيش الظلام فى مكتب الإرشاد، الذى جاءوا بقتلة السادات وأجلسوهم فى الصف الأول خلال الاحتفال بذكرى انتصاره، والذين أخرجوا شيوخهم على شاشات التليفزيون ليسبوا ويلعنوا ويكفروا كل من يخالفهم فى الرأى.
شاركت فى الثورة الثانية بعد أن رأيت جنود جيشك يختطفون، ويخرج رئيسهم المزعوم ليطالب بسلامة الخاطفين والمختطفين (!!)، وبعد أن رأيت أكثر من أبى لهب يجلسون تحت قبة مجلس الشعب، وبداية ظهور الميليشيات الإخوانية والسلفية فى الشوارع، ورأيتهم يهاجمون وزارة الدفاع، بعدما أحرقوا أقسام الشرطة.
يومها أدركت بعقلك، الذى لا أشكك فى رجاحته، أنك ميت وأننا جميعا ميتون، لأن أصحاب الوجوه العابسة واللحى الغبراء لن يسمحوا لنا بالحياة إلا إذا كنا أغنامًا فى قطعانهم، وإلا سنذبح ونصبح «أضاحى الثورة».
شاء قدرى- وليس اختيارى- أن أكون بعيدًا عن الوطن فى تلك الفترة، لأننى كنت مغتربًا فى بلد شقيق أبحث عن الرزق وعن أمان أسرتى مثل ملايين غيرى، وقد منحنى هذا أن أرى الصورة كاملة، وليس من خلال الزاوية القريبة منى فقط، كما كان الحال لكثيرين.
كان هناك ما يشبه اليقين بأن هناك ثورة قادمة على حكم مبارك، الذى صار الفساد فى آخر سنوات حكمه فوق الطاولة لا تحتها، وهو مسئول عن الوزير المشكوك فيه من كل النواحى، الذى دمر زراعتنا، وأقنعه بأن زراعة الكنتالوب والفراولة «الماسخة» لها جدوى اقتصادية تفوق زراعة القمح والقطن، والذى تسبب بمبيداته الفاسدة فى ظهور أشرس أنواع السرطانات بين المصريين، ناهيك عن الفشل الكلوى، مبارك الذى أصبح فى عهده «فيروس سى» وباء يهدد أرواح ملايين المصريين، وهو غارق فى شيخوخته وأحزانه على فقدان حفيده، فترك مصر للسيدة الأولى تحكمها على طريقة شجرة الدر، ولابنه الذى يفتقد أى قدرات سياسية أو قبول جماهيرى، فزاد الحياة السياسية فسادًا.
أنا لم أشارك - مثلك يا عزيزى- فى أى من الثورتين، لكننى فرحت لخلع مبارك، ولم أشك ولو للحظة فى إخلاص أغلب من وقفوا لمدة ١٨ يومًا فى ميدان التحرير، ولكننى من خلال متابعتى الصحفية ورؤيتى للموقف من بعيد، أدركت، كما أدرك ملايين غيرى، أن هؤلاء الطيبين الذين يهتفون من قلوبهم فى الميدان، ليسوا إلا قمة جبل الجليد، الذى يختفى الجزء الأكبر منه بعيدًا عن الأعين تحت الماء.. هؤلاء هم الذى كانوا يحرقون أقسام الشرطة، ويقتحمون السجون، ويرسمون سيناريو الفوضى، تمهيدا لتنفيذ مشروع «الصهيونى» برنارد لويس لتفتيت الشرق الأوسط، الذى تبناه الكونجرس الأمريكى رسميًا عام ١٩٨٣، والذى كانت مصر بموجبه ستقسم إلى ثلاث دول، بالإضافة إلى اقتطاع كل الأراضى جنوب أسوان، لتنضم إلى دولة تضم نوبة مصر والسودان.
نعم كان هناك ثوار أطهار خرجوا يهتفون ضد مبارك، لكن هل ننكر أنه قد حدث ما أخبرنا به أشهر ثوار العصر الحديث «تشى جيفارا»، الذى قال إن «الثورة يصنعها الشرفاء، ويرثها ويستغلها الأوغاد».
نعم- يا عزيزى- لقد ذهبت إلى الميدان كثائر حسن النية، ولكنك طوال الوقت تردد الحكمة التى تقول إن «الطريق إلى الجحيم مفروش بالنوايا الطيبة»، وترفض أن تطبقها على نفسك، نعم لقد كان هناك سيناريو أسود لم تكن تعلم عنه شيئا، وكنت أنت- وكثير من المخلصين- ستصبحون الشرارة الأولى لبدايته.
الآن وبعد ثمانية أعوام لا بد أن نصدق أنه كان لدينا ثوار حقيقيون، لكن كان هناك فى المقابل ثيران، سافروا وتلقوا تدريبات فى الخارج بمباركة أمريكية واستقبلتهم هيلارى كلينتون، ومولوا بعشرات أو مئات الملايين، هؤلاء الثيران هم من حاولوا محاصرة مقر وزارة الدفاع فى العباسية، وماسبيرو ومدينة الإنتاج الإعلامى، وكان من بينهم من أحرق أقسام الشرطة، وفتح السجون وأحرق المجمع العلمى وحاول إحراق مجلس النواب.. وكانوا يرددون شعارًا شيطانيًا بأنهم يريدون أن يهدموا مصر ليعيدوا بناءها «على نظافة» أو على طريقة إنسف حمامك القديم!!.
مع كل الاحترام للمخلصين الذين خرجوا فى ٢٥ يناير، وهم جزء من الثورة وجزء من الصورة، أقولها إنه لولا ثورة ٣٠ يونيو لكنا اليوم غارقين فيما جلبه لنا «ثيران» ٢٥ يناير الذين كان هناك من يحركهم فى الظلام.