رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سحابة وردية مُعبَّأة فى كيس

جريدة الدستور

كان مفترشًا سحابته الوردية التى ترش الندى على الورد كل يوم فى الصباح، التى لا تفنى ولا تستحدث من عدم. عندما سمع مزامير بائعى غزل البنات، آتية همسًا من الأرض، استيقظ.
علم أن الوقت تأخَّر، وأنَّ الملائكة أكلت معه أرزًا حتى شبعت. غسل وجهه بالمياه الوردية المُسَكَّرة التى تجمَّعت فى السحابة، ثم أخذ يقطف منها قطع غزل البنات ويضعها فى أكياس صغيرة. بعد أن ملأ الأكياس، أخرج من جيبه منفاخه الصغير لينفخها. ربط الأكياس فى عامود القصب، ووضع المزمار فى جانب فمه. لم يتبقَّ من سحابته سوى قطعة يجلس فوقها. قال: «استعنَّا على الشقاء بالله»، وقفز من فوق السحابة. هبط هبوطًا بطيئًا؛ فأكياس غزل البنات بعد نفخها تقوم مقام المنطاد.
ألقى التحية أثناء نزوله على البنات اللاتى يغزلن السحاب، فلم يرددن التحية، فكُن يهمسن برسائل الموتى والملائكة فى كل قطعة يغزلنها. لولا أنَّهن فتيات صغيرات لتمنى أن يكُنَّ له حورًا عين. كانت بوادر الجمال تبدو عليهن، يرتدين ثيابًا صوفية وردية مغزولة بإبرة غزل البنات نفسها. يبدو أنَّهن أيضًا غُزِلن بالإبرة نفسها. شعورهن طويلة تختلف ألوانها باختلاف ألوان الطيف، وتحيط بملامحهن الطفولية الرقيقة، المختلفة باختلاف أجناس البشر. كان يعلم أنَّه سيعود ليجد سحابته غُزِلت من جديد.
سمعت مزماره من بعيد، فلم أقاوم. كثرت زياراتى لطبيب الأسنان، الذى زادنى على توبيخ أمى توبيخًا، وأمرًا بأن أقلل من أكل الحلويات. تقف أمى مثل الحارس الآمر أمامى فى الحمام وأنا أغسل أسنانى، وهى تنبّهنى بأن أغسل الجانب الأيمن جيدًا وكذلك الأيسر، وتُشرف على تلك العملية التى لا تُجدى نفعًا أمام حبى لغزل البنات. أسمع المزمار المميز، فأمشى نحو بائع الغزل كالمسحورة. يبدو بائعًا جائلًا عاديًا للغاية، ملابسه متسخة ومهترئة بعض الشىء، أسمر وشعره أكرت. يمد شفته السفلية وهو يتحدث، فيخرج الكلام أعوجًا. أغلب مخارج حروفه خاطئة، ولو كان زميلًا لنا فى الفصل، لوبَّخته مُعلّمة اللغة العربية كل حصة.
أطلب منه كيسًا كعادتى، وأعطيه جنيهًا. أستخدم أسنانى المريضة فى فك عقدة الكيس. أقطع من الغزل وأطعمه، فيمتزج بخلايا رأسى ويسرى سكره فى قلبى، مثل القطن الذى يستخدمه طبيب الأسنان عندما يخلع لى ضرسًا ليسد به جرحى، فتلتصق شعريات القطن بملابسى. أسمع رسالة جدتى فى القطعة الثانية: «سمعت أخبارًا عن حصولك على الدرجة النهائية فى الحساب. دُمت متفوقة. سأدعو الله أن يشفى أسنانك اللؤلؤ حتى تأكلى غزل البنات، فاأتنس بسماعك صوتى. كونى بخير».
لا تسألونى كيف أسمع صوتها، ربما بعثت لى فى قطع السحاب رسائلها. كل ما أعلمه عنها أنَّها صعدت فوق عند ربنا. لم أحكِ لأمى، فإنها لن تصدق أنى أأكل غزل البنات لهذا السبب.
أشتاق إلى جدتى كثيرًا. لماذا لا أبعث لها رسالةً لأخبرها بذلك؟ عدت إلى مكان بائع غزل البنات، فوجدته يبتعد. أجرى لكى ألحق بخطواته الواسعة.
- عمو عمو. ممكن أطلب منك طلب؟
- أؤمرى يا عسل.
- أنت ملاك، صح؟
- هاه.
- أنا عارفة. ممكن تقول لتيتة إنها وحشتنى أوى. أنا سمعت الرسالة بتاعتها.
- مممم. حاضر.
- شكرًا يا عمو، ربنا يخليك.
لا أعلم إذا كان سيصدق فى وعده لى أم لا، ولكنى سأنتظر رسالتها القادمة عندما يأتى الغد.
من مجموعة: نشاطركم الأرواح