رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فلك

جريدة الدستور

فى يوم واحد، يفرغ البيت عليكِ وحدك، تنظرين فى المرآة فتكتشفين أن السنين تركت آثارها على وجهكِ وشعركِ وجسمكِ، وأنّك لم تعودى أنتِ. هناك سيدة عجوز لا تعرفينها تنظر إليكِ. لا الملابس عادت تناسبك، ولا الذيل الحصان، الذى تصرّين على عقده عاليًا كما كنتِ تفعلين طيلة عمرك، يليق عليكِ.
أتناول حقيبتى وأغلق الباب خلفى جيدًا. أتأكّد مرتين أنّنى أدرت المفتاح قبل أن أخرجه وأضعه فى الحقيبة. أدفع الباب مرّة أخرى لأتأكّد من أنّه محكم الغلق، ثم أنزل درجات السلالم ببطء وأنا أستند إلى الدرابزين.
أسير فى الشارع فينظر إلىّ الجميع، أرتدى كما كنت أرتدى طيلة عمرى، جيب قصيرة وتوب ملونًا زاهيًا، وحذاء بكعب عالٍ. أعقد شعرى على شكل ذيل حصان، وأضع عطرًا فاقعًا. لا أتوقّف حتى أدخل من باب الكوافير القريب من المنزل.
أزور الكوافير مرّة كل شهر لصبغ شعرى، لا أحتاج إلى ترديد ما أريده، فالجميع يعلم طلبى، أجلس على أقرب مقعد دون سؤالٍ. لا يجرؤ أحد على جعلى أنتظر دورًا. يقترب منّى الباشا مرحبًا، ويشير لأحد العاملين ليبدأ العمل على شعرى بسرعة. يعرفون اللون المطلوب، الأشقر الزاهى ولا شىء سواه، لون شعرى الأصلى قبل أن يتحوّل إلى الرمادى الكئيب.
أجلس نصف ساعة انتظارًا لغسل الصبغة، لا أحب أن يغسل لى شعرى سوى الفتاة السمراء الضئيلة، نادية، أرفض أن يمسه أحد غيرها، فيسرعون فى تلبية أوامرى حتى لا ألقنّهم درسًا قاسيًا بلسانى السليط، الباشا نفسه كان طالبًا لدىّ فى المدرسة الابتدائية. لا يزال ينادينى باسم مِس فلك.
تنتهى نادية من غسل شعرى، تدلكه ببطء، أحبّ كيف تتخلّل أصابعها فى خصلاته وكأنّها تمشّطه برفق، تسألنى هل أنتِ مرتاحة يا مِس فلك؟ هل الماء دافئ؟ فأجيبها بنعم.
تجفّفه بـ«السشوار» قليلًا، فأنهض فورًا. لا أحبّ المكواه ولا أجعلها تلمس خصلاته. أتركه كما هو وأعقده ذيل حصان من جديد، ثم أُخرِج قلم الروج الأحمر من حقيبتى. ترتعش يدى قليلًا كما تفعل منذ سنوات، فلا أهتم. أمرّر القلم على شفتىّ. يخرج اللون عنهما بعض الشىء، لكنّى لا أبالى، النتيجة ترضينى فى النهاية وهذا ما يهمّ.
أخرج بضعة جنيهات من الحقيبة، أضعها فى يد نادية التى تتناولها شاكرة، تمُدّ يدها لمسح الروج الخارج عن حدود شفتاى لكنّى أمنعها.
- هل تعدّلين علىّ يا حمقاء؟
- بالتأكيد لا يا مِس فلك.
لا يقبل الباشا أخذ مقابل منّى، هذا واجبه تجاهى كمعلمته القديمة. لا أعتبرها صدقة ولا إشفاقًا، بل هو حقى الكامل.
أغادر الكوافير وأنا أرفع رأسى عاليًا. أسمعهم يتهامسون فى طريقى للخروج. تفلت من إحدى السيدات الجالسات ضِحكة مكتومة. لا أنظر باتجاهها. تعوّدت على مشاعر الغِيرة من النساء طيلة عمرى. يحسدوننى على جمالى، وعلى قدرتى على فعل ما أريد وقتما أريد.
مقطع من رواية: بنات الباشا