رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المناطق الآمنة التركية على الأراضي السورية


الرئيس التركي رجب أردوغان؛ يعاود مرة أخرى طرح مفهوم "المنطقة الآمنة" داخل حدود الأراضي السورية. وان كانت في أول خروج لها إلى العلن مايو 2013 قد شهدته الأراضي الأمريكية،وقت زيارة أردوغان للرئيس السابق أوباما بالعاصمة واشنطن، وحمل حينها التوقيت والمكان دلالة لم تخف على أحد. حيث اعتبر هذا في حينه تدشين لمشروع تركي، كانت ملامحه على الأرض لا تزال غائمة إلى حد ما، لكن اطلاقه حينئذ من واشنطن وتماهيه الى حد كبير مع ما ظلت ادارة أوباما تشجع عليه. افسح مجال العمل عليه من الجانب التركي، بدأب لم يخفت، رغم تغيرات وتطورات عديدة حدثت على الأرض منذ الاطلاق و"الحلم به"، وصولا إلى تواجد عسكري مباشر للقوات العسكرية التركية في نقاط مؤثرة بالشمال السوري.
اليوم بعد ما يمكن تسميته بـ"مشهد جديد" كليا، لمساحات السيطرة والنفوذ من قبل النظام السوري والأطراف الأخرى المتداخلة. وبعد مرور خمسة أعوام عن اطلاق مشروع اقتطاع مساحة من الأرض، بداخل العمق السوري، تضمن التهام تركي لأجزاء من شمال الفرات والغرب السوري. يعود أردوغان منذ يومين ونحن في بداية العام 2019، ليصرح من جديد بثقة يحسد عليها: "أن تركيا سوف تنشئ على طول حدودها مع سوريا؛ منطقة آمنة بعمق 20 ميلا". وهي تعادل تقريبا مسافة (32 كيلو متر)، ومما بدا وكأنه هناك حصول تركي على موافقة أمريكية على هذا الطرح، أنه تم اعلانه بعد اجراء اتصال هاتفي مطول بين الرئيس ترامب وونظيره التركي، وحرص كلا الطرفين على بث خبر تلك المكالمة ووصفها بـ"المطولة والمعمقة"، حول القضايا الثنائية والدولية وخصوصا الملف السوري، ومن ضمنه قضية المقاتلين الأكراد، وتهديد أنقرة بشن عملية عسكرية ضدهم.
وربط هذا الحديث التركي عن "المنطقة العازلة" ووصفه بالجديه هذه المرة، مع الاعلان الأمريكي السابق بالانسحاب العسكري من الشمال السوري، استدعى ردا سوريا رسميا تناول هذا الطرح، جاء على الوكالة الرسمية الناطقة باسم النظام السوري "سانا" يحمل هذه المرة لهجة مغايره ربما عما سبق، فقد وصف أردوغان وحديثه بالقول: "أن تصريحات رئيس النظام التركي تؤكد أن هذا النظام، لا يتعامل إلا بلغة الاحتلال والعدوان. ويتصرف بما يتناقض مع أبسط مبادىء ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة". وفي طيات التصريح السوري المضاد أكد بأن النظام التركي "راعي الارهابيين في حوارات آستانا"، وأن الجمهورية العربية السورية تؤكد أن محاولة المساس بوحدة سورية، لن تعتبر إلا عدوانا واضحا واحتلالا مباشرا لأراضيها، ونشرا وحماية ودعما للإرهاب من قبل تركيا، والذي تحاربه سورية منذ ثماني سنوات. ما سبق هو حديث سوري جاد، ومن أعلى مستويات التمثيل داخل النظام، وعلى الوكالة التي تنقل وجهة نظر ومواقف النظام إلى العالم. لكن.. ماذا يمكن أن يجري على الأرض، وقد جرت بعض من فصوله داخل سورية، في عمليتي "درع الفرات" و"غصن الزيتون"، وكلاهما شهدا تواجدا عسكريا من الجيش التركي منذ نحو عام ونصف مضى وحتى الآن. هذا يحتاج اجابة من النظام وحلفاءه، حيث يجلس الحلفاء طوال تلك المدة مع النظام الراعي لما وصف به، ويتم الترتيب معه بموافقتهما على مستقبل سورية !
في المقابل ما تسرب عن الخطة التركية، التي صرح بها أردوغان مؤخرا، تناول للمرة الأولى مناطق بعينها، وأعماق وامتدادات على الخريطة السورية، يمكن لكل ذي بال تفسير ملامحها. فهي ستضم مدن وبلدات تقع في النطاق الإداري لثلاثة محافظات سورية، هي (حلب، والرقة، والحسكة)، وهي بذلك تمتد لنحو (460 كيلومتر) طولي، على الشريط الحدودي الفاصل ما بين سورية وتركيا، وبالعمق الذي أعلن عنه أردوغان في تصريحه (32 كيلومتر). أبرز تلك المناطق المشمولة في خطة المنطقة الآمنة، هي المناطق الواقعة شمالي الخط الواصل بين قريتي صرين في (محافظة حلب) وعين عيسى في (محافظة الرقة). أشهر البلدات التي ظهرت بتلك الخطة والتابعة لـ (محافظة الحسكة)، هي مدن القامشلي، ورأس العين، وتل تمر، والدرباسية، وعامودا، ووردية، وتل حميس، والقحطانية، واليعربية، والمالكية. كذلك ستضم المنطقة الآمنة كل من قرية عين العرب في (محافظة حلب)، وتل أبيض في (محافظة الرقة).
بالعودة إلى عملية "درع الفرات" العسكرية التركية، نجد أننا أمام سيطرة واحتلال تركي مباشر لمنطقة تحدها بلدات (أعزاز، والباب، وجرابلس)،ومنذ التواجد العسكري فيها، فرضت الحكومة التركية سيطرة إدارية مباشرة على المنطقة. حيث قامت الأخيرةبتعيين مسؤولين يحصلون على الدعم الكامل من محافظة (غازي عنتاب) التركية المجاورة. بالمثل هذا هو ما حدث في عملية "غصن الزيتون"، فقد فرضت سيطرتها على (عفرين) وقامت بتعيين قائمقامومسؤولين آخرين لإدارة شؤون الحكم الخاضعة لتواجدها العسكري المباشر وغير المباشر عبر قوات "الجيش الحر".وهذا من دون شك سيشكل استثمار مستقبلي للأتراك واسع النطاق، ليس فقط على المستويين السياسي والاقتصادي، انما وفق المفهوم الجديد سيكون له دخل بموازين القوى العسكرية بنطاق الشمال السوري ودوائر الإقليم المرتبطة.
هناك مشهد من التاريخ ربما يكون من الجدير الإشارة إليه وفق هذا السياق، حيث اعتبرت الاستقالة التي تقدم بها رئيس أركان الجيش، الجنرال "نجيب تورومتاي عام 1990، احتجاجا منه آنذاك على سعي رئيس الوزراء "تورجوت أوزال"، إلى الانخراط في التدخل الأميركي ضد قوات صدام حسين التي اجتاحت الكويت.كما تكرر ذلك لاحقا في التقديرات التركية عموما، التي عدت أن موقفامماثلا هو الذي دفع الجيش التركي عام 2016، إلى مقاومة ضغوط سياسية من أجل التدخل المباشر بقوات تابعة للجيش في سورية، قبل أن تندلع المحاولة الانقلابية الفاشلة في يوليو من هذا العام، باعتبار ما كان يلح عليه أردوغان حينها، وهو ما دفع القيادات العسكرية التي انخرطت في المشهد إلىتفسيره بكونه، خروج على العقيدة التقليدية لهذا الجيش.